حرب بوليسية مفتوحة.. هكذا ينتقم الاحتلال من فلسطينيي الداخل
جفرا نيوز- لم تتردد مريم عساف (21 عاما) في الخروج إلى "ساحة الأسير” في حيفا، أكبر مدن فلسطين التاريخية وأهمها، ومقر سكنها، لتشارك في مسيرة سلمية انطلقت في التاسع من مايو/أيار 2021 تنديدا بما يحدث في القدس وحي الشيخ جراح من اقتلاع للعرب من بيوتهم وتسليمها إلى مستوطنين دون مواربة أمام أعين الرأي العام العربي والعالمي. أرادت مريم، طالبة الحقوق في الكلية الأكاديمية "أونو”، إيصال صوتها مع أبناء جيلها من فلسطينيي الداخل المحتل منذ عام 1948، وتبليغ رسالتهم بأن هناك من يرفض ما تفعله دولة الاحتلال الإسرائيلي بحق أبناء شعبهم من تهجير واعتداءات متواصلة، كما قالت في حوارها مع موقع ميدان. كانت مريم واحدة ممن نالت منهم موجة الاعتقالات الجماعية التي تشنها دولة الاحتلال لمعاقبة المشاركين في المسيرات في بلدات ومدن الداخل المحتل خلال الشهرين الماضيين.
بدأت الأحداث الأخيرة بقمع الموجودين في المسجد الأقصى، حين خرج المتطرفون اليهود في العاشر من مايو/أيار بمسيرات لإحياء ذكرى احتلال إسرائيل للقدس الشرقية عام 1967. ومع تطور الأحداث في حي الشيخ جراح بالقدس، أعلن مواطنو حيفا ويافا واللُّد وغيرها رفضهم إخلاء سكان الحي من بيوتهم استجابة لقضية رفعتها شركة يهودية ضد سكان الحي، ومن ثَم انتفضت "حماس” هي الأخرى واشتعلت حرب جديدة حول غزة لمدة أسبوعين. وما إن هدأت نيران الحرب حتى بدأت معركة متعددة الأوجه في مدن الداخل المحتل كافّة لاستهداف النشطاء العرب، معركة استغلت فيها سلطات الاحتلال انصراف الأنظار العربية والدولية عن فلسطين ووقف إطلاق النار مع فصائل المقاومة.
فاقم العدوان الإسرائيلي على غزة من حدة الأوضاع في مدن الداخل، وأحدث تفسُّخا غير مسبوق في نسيج المجتمع الإسرائيلي بالتزامن مع ترابط غير مسبوق بين أضلاع القضية الفلسطينية بغزة والضفة ومدن 48. فبينما واجه فلسطينيو الداخل عنفا من المستوطنين اليمينيين المتطرفين وصل لذروته أثناء الحرب، استخدمت الشرطة الإسرائيلية القوة واعتدت بالضرب على المتظاهرين بعُنف لم يروه من قبل. وتلا ذلك شنّها حملات موسعة من الاعتقالات الجماعية في محاولة لقمع الاحتجاجات العربية ومحرِّكيها، إذ داهمت منازل النشطاء والمنتفضين من عرب 48، ولا تزال حملتها الأمنية جارية حتى اللحظة.
ينص القانون الإسرائيلي على أن "التظاهر السياسي حق مشروع”، وبناء على ذلك خرجت مريم عساف من منزلها لتشارك في التظاهرة السلمية بحيفا، إلا أنها اعتُقلت في وقتٍ تعرَّض فيه قاطنو مدينتها لهجوم من قبل عصابات من اليهود العنصريين، والذين لم تعتقلهم الشرطة الإسرائيلية بطبيعة الحال. تصف مريم لميدان ما حدث، فتقول إنها والعشرات من أبناء حيفا وقفوا يهتفون تضامنا مع الشيخ جراح، لتسارع وحدة "اليسام” الخاصة بالالتفاف حولهم بأعداد كبيرة جدا، قبل أن يقوم ضباط الوحدة بحصار المتظاهرين في الحي الألماني بحيفا، ودفعهم للاحتكاك جسديا بهم.
بعد نصف ساعة فقط من مشاركتها في تلك التظاهرة، اعتقلت قوات الاحتلال مريم عساف بعد طرحها أرضا بعنف شديد، إذ ضغط أحد الجنود على ظهرها ضغطا شديدا ليشل حركتها ويقيّد يديها وقدميها. تقول مريم: "كنت في الصف الأول للمتظاهرين، فالتقطني الجنود بسرعة، واعتقلوني بعنف، ووضعوا الأصفاد على يدي وقدمي، وضغطوا بشدة على عمودي الفقري حتى إن الألم استمر أسبوعا كاملا”.
سُجِّلَت لحظات اعتقال مريم بالصوت والصورة، إلا أن صورة فوتوغرافية لها وهي ترفع رأسها قليلا أثناء طرحها أرضا سرعان ما تحوَّلت إلى رمز لمقاومة عملية القمع التي تسعى للنيل من فلسطينيي الداخل. فقد ظهرت الفتاة التي ترتدي الكوفية الفلسطينية وهي في وضع مؤلم تحاول رفع رأسها مبتسمة، وتقول مريم عن تلك اللحظة واللقطة: "ابتسمت كي أبين لغة المقاومة في وجهي، وأن الاعتقال لا يرهبنا كما تريد إسرائيل، وأننا مستعدون للصراخ هنا في المكان الأقرب للإسرائيليين حتى آخر نفس”.
اعتُقلت مريم وهي الفتاة الوحيدة مع 16 شابا من التظاهرة ذاتها، وقُيِّدوا ثم اقتيدوا إلى مركز شرطة حيفا، وعن هذه اللحظات تقول مريم: "كنت أرى معتقلا تلو الآخر في حالة يرثى لها، بعضهم يسيل الدم من وجهه، وآخر عينه مصابة، وثالث مصاب بكسر في ضلعه. ولم تستجب الشرطة للمحامين بعرض المعتقلين على الطبيب”. وُضِعَت مريم وجميع المعتقلين في حجز سيئ الظروف حتى عُرِضوا على المحكمة صباح اليوم التالي، وكما تخبرنا مريم، لم يطلب القاضي منهم سوى طلب واحد، وهو الإفراج عنهم مقابل التعهد بعدم المشاركة في أي تظاهرة أو تجمع سياسي لمدة شهر.
في حكاية أخرى، يسجل ميدان ما حدث مع الشاب "هاني مراد” (23 عاما)، الذي استُهدِف ضمن موجة الاعتقالات الجماعية كجزء مما أطلقت عليه شرطة الاحتلال اسم حملة "قانون العمليات والنظام”. فقد كان ضمن أكثر من 1500 شخص أُلقي القبض عليهم في عملية مشتركة بين الشرطة الإسرائيلية وأجهزة الأمن الداخلي الإسرائيلية التي عادة ما تتعامل مع الإرهاب. وقبل دقيقتين من اعتقال هاني في 11 مايو/أيار، هاتف الشاب أمه وأخبرها أنه سيحضر عيد الفطر معها، وأنه اشترى لتوه بعض أغراض العيد التي تحبها من مدينة بئر السبع (جنوب فلسطين) التي تقع فيها جامعة "بن غوريون” (النقب) التي يدرس فيها.
خطّط هاني للذهاب إلى بلده طمرة (شمال البلاد) لقضاء إجازة قصيرة، لكن بعد دقيقتين فحسب من هذا الاتصال، وحين وضع قدميه أمام السكن الجامعي، انقضت على هاني ومجموعة من زملائه عناصر من الشرطة الإسرائيلية، واعتقلوهم بعنف واقتيدوا إلى السجن. قضى هاني في السجن تسعة أيام تأجّل فيها إخلاء سبيله أربع مرات، يقول لميدان: "كان من السهل إثبات أننا لم نعتدِ على شرطية إسرائيلية كما اتهمونا، وذلك من خلال مراجعة سريعة للكاميرا، لكن هذا لم يحدث، واستمر تمديد الحبس دون مبرر أو إثبات، واستمر اعتقال بعضنا لأسابيع”. هذا وقضى هاني وهو طالب في سنته الأخيرة بكلية الهندسة الكهربائية إجازة العيد في السجن، وهو الآن قيد الإقامة الجبرية في منزله ينتظر المزيد من الإجراءات القانونية على خلفية اعتقاله.
دخلت إسرائيل معركتها ضد فلسطيني الداخل بأقوى ما تملك من أدوات، إذ استعانت في قمع عرب 48 بما يُعرف بوحدة اليسام، أو "وحدة الدوريات الخاصة”، وهي وحدة تستخدم العنف المكثف، وتختص في مجالات أخرى مثل مكافحة الجريمة. كما شاركت قوات حرس الحدود، وهي وحدة من أهم مهماتها تنفيذ عمليات الاعتقال والمداهمات في الضفة المحتلة وقمع المسيرات والمظاهرات.
تدخلت تلك الأجهزة في توقيت تشييع العرب لكل من "موسي حسونة” (31 عاما) الذي قتل في 10 مايو برصاص مستوطن يهودي، ثم تشييع الفتى "محمد كيوان” (17 عاما) الذي قتل برصاصة في رأسه من قبل شرطة الاحتلال. فتلك العناصر، التي تقاعست تقاعسا كبيرا على مدار السنوات الماضية عن ملاحقة عصابات الجريمة المنظمة التي تسببت في مقتل نحو 1700 عربي منذ عام 2000، قمعت الفلسطينيين وحدهم دون المساس بالمتطرفين اليهود. وكما قال أحد رؤساء بلدية المدن العربية: "منذ سنوات كنا نتوسل إلى "الشاباك” (جهاز الأمن) لإنقاذنا في معركتنا ضد الجريمة، لكن الآن، وعندما يتعلق الأمر بمخاوف من إيذاء اليهود والشرطة، فجأة تظهر الموارد ويظهر الشاباك!”.
يرى خالد زبارقة، المحامي الفلسطيني الذي يقطن في مدينة اللُّد بالداخل المحتل، أن صوت الاحتجاج الآن في مدن الداخل نتاج تراكمات كبيرة من الظلم والغطرسة والسعي لإخضاع الشعب الفلسطيني وتركيعه في الداخل. ويقول خالد: "من الواضح أننا سنتعرض لحملة كبيرة ومتعسِّفة من الملاحقات والمطاردات، وباعتقادي أن شدتها ستتصاعد خلال الأيام القادمة”.
من جانبه، يؤكد أنطوان شلحت، الباحث بالمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار”، أن إسرائيل ستحاول قمع المعارضة في الداخل بكل ما أوتيت من قوة، خصوصا أنها -بالأساس- من جانب فلسطينيي ٤٨ الذين لا تتوانى دولة الاحتلال عن استعمال أشد الأدوات قمعا ضدهم. ويضيف أنطوان لميدان: "من المؤكد أنها لن تنجح، لأن المعارضة ستبقى قائمة إلى أن تبلغ غايتها. أقول هذا الكلام وأنا أستند إلى حقيقة أن المعارضة اندلعت في وقت لم يتوقعه أحد، وفي وقت خُيِّل فيه لكثيرين أن هناك تعزيزا لنزعات الاندماج، وأن هذا الاندماج سيفتح صفحة جديدة في علاقة هؤلاء الفلسطينيين بالدولة الصهيونية”. وقد شدد شلحت على أن الحملة الجارية الآن خطيرة وستنطوي على أدوات قمع جديدة، ومع ذلك فهذا لا يقلل من أهمية ودلالات الاحتجاج في هذا الوقت بالذات، إذ يحمل أبعادا فلسطينية وعربية ودولية، فضلا عن مآلاته بالنسبة إلى إسرائيل وأمنها وتماسكها الداخلي.
رغم أن الملاحقات السياسية والاعتقالات الانتقامية ضد فلسطينيي الداخل جارية على مدار العقود السبعة الماضية، فإن المؤسسة الحاكمة في إسرائيل سعت إلى تقنين عمليات القمع والسياسات العنصرية والقمعية، كملاحقة ناشطين حقوقيين وسياسيين داعمين لحقوق الشعب الفلسطيني. فعلى سبيل المثال، هناك قانون ما يسمى بـ”مكافحة الإرهاب” الذي استغرق تشريعه سبع سنوات، ويعد اليوم القانون القمعي الأوسع والأشمل، حيث فُرِض بالأساس من أجل الحد من حرية التعبير وتمكين الملاحقات السياسية التي تستهدف عرب 48 بالدرجة الأولى، ومن ثمَّ، تُعتبر أشكال المقاومة كافة، من المقاومة الشعبية وحتى المسلحة، إرهابا بموجب ذلك القانون. بل أقر الكنيست أيضا قانونا يرفع العقوبات على ملقي الحجارة، لتتراوح بين السجن من 5 سنوات إلى 20 سنة.
يقول أنطوان شلحت إن آلة التشريع الإسرائيلية لطالما خدمت غاية الملاحقة السياسية بحق الفلسطينيين في الداخل، من أجل قمع التطلعات القومية والوطنية لفلسطينيي الداخل، ومنع تنظيمهم الذاتي، والأهم، منع ارتباطهم بأقرانهم في الضفة وغزة وتعبئتهم سياسيا وفقا لأجندة المقاومة الفلسطينية التي تخُطها فصائل المقاومة هنا أو هناك، وهي فصائل إرهابية هي الأخرى في نظر القانون الإسرائيلي.
يبين أنطوان لميدان أن السنوات الأخيرة شهدت سيلا من مثل هذه القوانين، وبلغت الذروة مع سن قانون القومية الإسرائيلي الذي يعتبره كثيرون مُوجّها ضد فلسطينيي 48 لا غير. وهو يعتقد أن الجديد الآن ليس في هذه الملاحقة الأمنية المكثفة للفلسطينيين، لكن الملمح الأبرز هذه الأيام هو أن جذوة التحدي في صفوف فلسطينيي الداخل لم تنطفئ رغم الظروف المحيطة بهم، وأن هذه الجذوة أججت الانتفاضة بوجه السلطات الإسرائيلية وسياساتها، وصقلت الرابطة بين عرب 48 والضفة وغزة في وقت وجيز، ضاربة بعرض الحائط سنوات وسنوات من الجهود الإسرائيلية لدمجهم في المجتمع الإسرائيلي وفصلهم عن القضية الفلسطينية.
يقول خالد زبارقة إن إسرائيل تسن القوانين العنصرية منذ أكثر من 15 عاما، وأخطرها قانون يهودية الدولة الذي تقرر بموجبه ضمنيا أن حق تقرير المصير ممنوح فقط لليهود، وأن القدس عاصمتهم الأبدية. "لذا، لم يعُد العربي في هذه الدولة مواطنا متساوي الحقوق كما يروِّج الاحتلال، ولا مواطنا من الدرجة الثانية أو الثالثة. إن القوانين التي سُنّت في السنوات الأخيرة تهيئ -دون مواربة- لتطبيق يهودية الدولة على أرض الواقع وشرعنة وتقنين الممارسات العنصرية”.
في هذا الوضع غير المسبوق في علانيته وعنصريته بالوقت نفسه، تتوطد أواصر الفلسطينيين عبر كامل فلسطين أكثر من أي وقت مضى، ورغم أن القمع الإسرائيلي يبدو فعَّالا في الوقت الراهن، فإن أوصال العقد الاجتماعي -بين الدولة العبرية ومواطنيها العرب- التي تقطَّعت في أسابيع معدودة لن تلتئم بسهولة، ولعلها لن تلتئم أبدا بعد الآن، ومن المرجح أن يكون لذلك توابع كبرى على مستقبل القضية الفلسطينية والدولة الإسرائيلية في آن.
(الجزيرة