«الباحثون المعاصرون» بين من يحظر التعامل بالعملات الافتراضية ومن يرى أنها بحاجة لدراسة
وإذا كان الأمر كذلك فهل نتعامل معها كالعملات الملموسة بالبيع والصرف والهبة إلخ، أما أنها مختلفة تماماً عن هذه العملات، هذا ما تناوله الباحث الاقتصادي الدكتور يوسف صالح محمود في بحث نشرته « الاقتصاد الاسلامي « مؤخرا ..احتوى على معلومات ضرورية وقيّمة تجيب على تساؤلات كثيرين ممن يهتمون بهذا الموضوع .. ( تم نشر الجزء الاول من البحث الاسبوع الماضي ونكمل اليوم نشر الجزء الثاني والاخير من هذا البحث القيّم ) .
لماذا تسمى العملة الافتراضية بالعملة الوهمية؟
والسؤال: إذا كانت البرمجة لا يقال عنها إنها وهمية، فلماذا تسمى العملة الافتراضية بالعملة الوهمية؟ والجواب واضح، وهو أن البرمجة سميت بهذا الاسم والشخص الذي يشتري البرمجة يشتريها على أنها برمجة ولا يشتريها على أنها شيء آخر، أما إذا اشترى شيئاً وهو يظن أنه من البرمجة وليس من البرمجة فقد اشترى شيئاً وهمياً، ومن المعلوم أن الشخص قد يظن السراب ماءً، والسراب نوع من الوهم البصري وليس ماءً، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) النور39.
ويتبين من الآية الكريمة أن السرابَ سرابٌ وليس ماءً، فإذا رأيت سراباً وقلت: «هذا سراب»، فكلامك صحيح، وكذلك إذا قلت: «هذا ماء وهمي» فكلامك صحيح. أما إذا قلت: «هذا ماء» فقد أخطأت. ونستنتج من ذلك أنك إذا قلت في العملة الافتراضية: «هي عملة وهمية» فكلامك صحيح. أما إذا قلت: «هي عملة» فقد أخطأت.
وهناك فرق بين من اشترى العملة الافتراضية (الرقمية) ثم تصرف فيها، ومن أودع مبلغاً من المال في حسابه لدى جهة ما (البنك مثلاً) ثم تصرف في هذا المبلغ. أما الأول الذي اشترى العملة الافتراضية فإنه يتصرف في شيء وهمي، لأن البائع الذي أخذ المال (مائة ألف درهم) مقابل عملة «بيتكوين» يملك هذه المبالغ، أي: ليست هذه المبالغ (مائة ألف درهم) وديعة لديه. وأما الشخص الذي يتصرف في المبالغ التي أودعها لدى البنك (في الحساب الجاري) فإنه يتصرف في أمواله لدى البنك.
فمثلاً الشيكات من الأوراق التجارية وأصبح الناس يتعاملون بها بدلاً من النقود الورقية، إلا أن هذه الشيكات لا تعتبر في حد ذاتها نقوداً، وإنما هي مجرد أمر صادر من صاحب الوديعة إلى البنك ليدفع مبلغاً من المال لحامل الشيك – مثلاً، وهذا يعني أن مصدر الشيك يتصرف في ماله لدى البنك.
وهذا كمن يستخدم البطاقة المدفوعة مسبقاً أو بطاقة الصراف الآلي، حيث إن هذه البطاقة تُعد بديلاً مناسباً لحمل النقود، فإذا استعملتها للسفر أو للتسوق أو للدفع في المطاعم فإنك تتصرف في أموالك – في الحساب الجاري مثلاً – ولا تتصرف بعملة افتراضية وأرقام مجردة.
ثم إنه يوجد فرق بينهما من الناحية الشرعية، الزكاة مثلاً تجب في المال كما قال الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة) التوبة103. ويتبين من الآية أن الزكاة تجب في الأموال (مِنْ أَمْوَالِهِمْ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: «إنك ستأتي قوماً أهل كتابٍ، فإذا جئتَهم فادْعُهُمْ إلى أن يَشْهَدوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسولُ الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أنَّ اللهَ قد فَرَضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في كلِّ يومٍ وليلةٍ، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أنَّ اللهَ قد فرضَ عليهم صدقةً تؤخذُ من أغنيائهم، فترد على فقرائِـهم، فإنْ هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائِمَ أموالِـهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ، فإنه ليس بينَـها وبين الله حجاب»(10).
ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن الزكاة تجب في المال (فإياك وكرائِمَ أموالِـهم). فمثلاً تجب الزكاة في الحاسوب إذا كان للبيع لأنه مال، ولا تجب الزكاة في البرامج داخل الحاسوب بمفردها. وهذه البرامج مثلها مثل التيار الكهربائي المخزن في البطاريات وأرصدة الهواتف المحمولة وغيرها، ولا تجب الزكاة فيها لأنها ليست أموالاً.. وهكذا. وعندما نقول إنها ليست مالاً فهذا لا يعني أنه يحرم بيعها إذا كان فيها منفعة، لأن البرمجة يجوز بيعها مع أنها ليست مالاً.
والبرمجة من المنافع ولها وجود كالظلال، فإنها (أي: الظلال) من المنافع التي ينتفع بها الإنسان والكائنات الأخرى، وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة في الظلال ومنها قول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) الفرقان45، وقوله تعالى: (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً الإنسان14، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة في كتاب الله، تذكر الظل على أنه نعمة ورحمة من الله. وهذه المنافع لها وجود ولكنها ليست ملموسة. ويتبين من ذلك أن هناك أنواعاً من المنافع، فمنها ما يمكن بيعها كالبرمجة، ومنها ما لا يباع كالظلال، وسواء أكانت المنافع مما يباع أو لا يباع فإنها ليست مالاً.
ومثال آخر: إذا كان لديك عملة ورقية (ألف درهم مثلاً) وأخذت منها صورة، فهل نقول: لديك ألفان؛ ألف درهم ورقية ملموسة بيدك، وألف رقمية غير ملموسة في الكاميرا! ولا شك أن الساعي الذي يجمع الزكاة إذا جاء إليك فإنك تزكي عن المبلغ (الألف درهم) الذي بيدك ولا تزكي عن الألف الرقمية في الكاميرا، وذلك لأن المبلغ الذي بيدك مال، وأما الشيء الموجود داخل الجهاز الإلكتروني ليس بمال.
ونخلص من ذلك إلى أنه يوجد فرق بين المال والمنافع. وتُعدّ النقود الذهبية أو الفضية أو الورقية من الأموال، وقد يستخدم الناس الشيكات والبطاقات المصرفية بدلاً من حمل النقود، وقد وجدت قبولاً عاماً لأنها (أي: الشيكات والبطاقات) مغطاة بالأصول وليست نقوداً بحد ذاتها. فمثلاً الشيك المرتجع يعرف أيضاً باسم «شيك بدون رصيد» أو «شيك سيئ»، وهو شيك مقدم من قبل المدفوع له، ويرفضه البنك المسحوب عليه. والزكاة لا تجب في هذه الشيكات والبطاقات وإنما تجب الزكاة في الأموال في الحسابات الجارية.
والعملات الافتراضية (الرقمية) إذا كانت مغطاة بالأصول (كالعملة الورقية) فإنها تكون مثل الشيكات والبطاقات المصرفية المغطاة بالأصول، وفي هذه الحالة لا تجب الزكاة في العملات الافتراضية ذاتها كما لا تجب في الشيكات والبطاقات المصرفية وإنما تجب الزكاة في العملة الورقية. وأما إذا كانت العملات الافتراضية (ومنها عملة بيتكوين) غير مغطاة بالأصول فإنها تكون مثل الشيكات المرتجعة أو السيئة لأنها بدون رصيد، ومن المعلوم أنه لا قيمة للشيكات المرتجعة.
موقف الباحثين المعاصرين
ينقسم موقف الباحثين المعاصرين إزاء الحكم على العملات الافتراضية بين من يحظر التعامل بها (بيتكوين أو العملات الافتراضية الأخرى) وهذا رأي الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف بدولة الإمارات العربية المتحدة، وبين من يرى أنها مازالت محل بحث وتحتاج إلى دراسة، ولذلك لم يُتخذ موقف صريح بشأنها، وعلى رأس هذا الفريق مجمع الفقه الإسلامي الدولي.
قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي:
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة التعاون الإسلامي، المنعقد في دورته الرابعة والعشرين بدبي، 1441هـ/ 2019م، وبعد اطلاعه على التوصيات الصادرة عن الندوة العلمية للعملات الإلكترونية، التي عقدها المجمع في جدة خلال الفترة من 10-11 محرم 1441هـ الموافق 9-10 سبتمبر 2019م، واستماعه إلى المناقشات التي دارت حوله قرر ما يلي:
«الحكم الشرعي: 1- من خلال الأبحاث المعروضة والمناقشات التي دارت تبين أن ثمة قضايا مؤثرة في الحكم الشرعي لا تزال محل نظر منها:
1.1. ماهية العملة المعمّاه (المشفرة) المرمزة هل هي سلعة أم منفعة أم هي أصل مالي استثماري أم أصل رقمي؟
1.2. هل العملة المشفرة متقومة ومتمولة شرعًا؟
ثالثاً: نظرًا لما سبق ولما يكتنف هذه العملات من مخاطر عظيمة وعدم استقرار التعامل بها؛ فإن المجلس يوصي بمزيد من البحث والدراسة للقضايا المؤثرة في الحكم»(11).
رأي الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف (الإمارات):
حكم التعامل بالبتكوين: «البتكوين عملة رقمية لا تتوفر فيها المعايير – الشرعية والقانونية – التي تجعلها عملة يجري عليها حكم التعامل بالعملات القانونية الرسمية المعتبرة دولياً. كما أنها لا تتوفر فيها الضوابط الشرعية التي تجعل منها سلعة قابلة للمقايضة بها بسلع أخرى؛ ولهذا: فإنه لا يجوز التعامل بالبيتكوين أو العملات الإلكترونية الأخرى التي لا تتوفر فيها المعايير المعتبرة شرعاً وقانوناً؛ وذلك لأن التعامل بها يؤدي إلى عواقب غير سليمة: سواء على المتعاملين، أو على الأسواق المالية والمجتمع بأكمله، وسواء اعتبرناها نقداً أو سلعة فالحكم يشملها على كلتا الحالتين»(12).
فتوى دار الإفتاء المصرية:
أصدر مفتي الديار المصرية الدكتور شوقي علام (2018)، فتوى تحرّم استخدام عملة «بتكوين» الرقمية. قال: «لا يجوز شرعاً تداول عملة البتكوين أو التعامل من خلالها بالبيعِ والشراءِ والإجارةِ وغيرها، بل يُمنع من الاشتراكِ فيها لعدمِ اعتبارِها كوسيط مقبول للتبادلِ من الجهاتِ المختصة. ولما تشتمل عليه من الضررِ الناشئ عن الغررِ والجهالةِ والغشِ في مَصْرِفها ومِعْيارها وقِيمتها، فضلاً عما تؤدي إليه ممارستها من مخاطرَ عالية على الأفراد والدول»(13).
المراجع :
(10) صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن، رقم الحديث 4347.
(11) قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم 237 (8/24) بشأن العملات الإلكترونية، 1441هـ، 2019م.
(12) الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، الإمارات العربية المتحدة، حكم التعامل بالبتكوين، الفتوى رقم 89043، عام 2018 م.
(13) ينظر: كتاب وقائع المؤتمر: البحوث المقدمة والمقبولة للعرض في الجلسات العلمية للمؤتمر الدولي الخامس عشر 2019م، ص340.