العظماء لا يرحلون؛ بقلوبنا ساكنون
جفرا نيوز - د. كميل موسى فرام
والدي: للمواقف المؤلمة سحر رباني بفتح صفحات الذاكرة بتفاصيل لن ترحل لركن الذكريات، المواقف التي تصنع الوفاء وتترجمه لواقع، ويمثل الحادي والعشرين من نيسان الذكرى الأكثر إيلاما بمسيرتي الحياتية، عندما غادرتنا لتسكن الفردوس السماوي، بعد سنوات الكفاح والعمل المخلص، فأهديت للوطن كوكبة من الأبناء، الذين عملوا ويعملون بوصيتك، بكنف الوالدة أطال الله بعمرها، ففي ذلك الأربعاء، وخلال ساعات صباحه الأولى حيث شمسه تلقي السلام ليوم جديد، كان لك القرار بالفراق، وأنت تدرك حاجتنا لوجودك بيننا، وكلماتك الوداعية مازالت بأصداء?ا تسمعني الوصية والنصيحة، دستور عائلي يحكم حياتنا، بالمحافظة على وحدة العائلة برعاية شقيقي الأكبر كريم، والالتفاف حول الوالدة لإسعادها، بعد مسيرة سنوات التضحيات التي حفرتم فيها صخر الأيام، وسادة قطن لنرتاح ونسعد. شريط الذكريات حافل بالمواقف، ومسيرة بناء العائلة منذ لحظات شمس الإجفور والإجفايف الحارقة، مرورا بمحطات امتحان قاسية، وصولا لشمس ربيع ميتشيغان الواعدة ليتحقق الحلم في مهد الديمقراطية، يترجم المشوار بهذا الصرح العالي الممتد بهمة الأبناء والأحفاد وأبناء الأحفاد بمسيرة عائلية ولا أجمل، أنموذج يحتذى به? وأيقونة بُردى حملت أسفار الإنجاز، برهانا لإيمان لا يعرف المستحيل ولا يعترف بالصعوبة، فقاموس المحبة والإخلاص، يحتض الأفعال والأقوال التي من شأنها ترجمة طموح الذات بالتوقيت المناسب والأمثل.
والدي: أقف اليوم ساجدا أمام محرابك لاستخلاص العبر على عبير الذكريات، فتتواضع الأفكار وتخجل الكلمات، تصمت الألسنة وتخشع الأصوات، تقف إجلالاً بثوب التقدير بمحطات العمر ومسيرة الدرب، لأدخل عرينك متهيّباً خائفاً، فيقف الخاطر الملهم عاجزاً حائراً لا يهتدي بياناً، فالتعبير، وأي طريق يسلكه لن يلامس شرف الأبوّة، لأقف تائهاً بين واقع الفكر وحديث الوجدان، ووجدت نفسي اليوم بذكرى رحيلك بوجداني ما حيينا كعائلة، لأنك الأعز لقلوبنا والأقرب لحديث الوجدان بحياتنا، فالظروف يا والدي فتحت براكيين التغيير، ولكننا على درب الوفا? كما عاهدناك، خصوصا بزمن تراجعت فيه العواطف، وتخشَّبت الأحاسيس، وتبدلت الأولويات، وأصبح التمرد عنوان النسيان ودستور السلوك، نكرانا لصفحات البدايات الأولى، فتتساقط قطرات الندى من القلوب وتنزف الدموع من العيون، وأصوات الصدى لا تجيب، لتتركنا نعوم بقارب الحيرة فوق جليد الأمل، نحلل لنتعض ما بلغنا أو قدرنا، نأسف إن قصرنا وحالنا اليوم نلهث للبقاء، بالرغم أنك خالد فينا في كل ركن من حياتنا ذكرى صنعتها أنت، وبستان عطاؤك المثمر يشحن الهمم. تبقى بعض المشاعر حبيسة جدران القلب، وتعجز حروف اللغة بترجمتها لعظمة مستحقة، ل? بوح ولا كلام يجدي، لتخرج تنهيدة من الجوف، حارة بدفىء المكان، ترسم ضلالاً على لوح زجاجي، يخفي ملامح اللوحة، ويشتت تفاصيل الواقع، فنحلق في أحلامنا ونجدف على غدير الأوهام.
والدي: أذكر عتابك قبل وفاتك بساعتين بكلمات العين واللسان وتعابير الوجه الصادق، عندما حضرت اليك مسرعاً للمستشفى وأنت تودعني بأمنيتك قبل وفاتك أن أرزق بولد يحمي شقيقتيه من غدر الزمن والأيام، وعاهدتك بوعد، بإرادة الله التي تحققت بعد رحيلك بعامين، فلم أدرك بتلك الساعة الصباحية أنني قد حضرت لوداعك عندما سلمت عليك، وقبَّلت يديك الطاهرتين لُيذكُّرني ولدي اليوم كلما أنظر إليه أو أقبِّله بوصيتك، فقدره أن لا يراك، ولكنني أراك فيه، وأدعو الله دوما أن يحفظه وقد حمل اسمك تيمنا بمستقبل يترجم أركان النجاح. عندما تعجز الأ?سن عن وصف الشعور وتتوه الكلمات وسط هذه المشاعر، ويعتصرنا الحنين إلى من فقدنا، فنتذكر السنين والشهور والأيام والدقائق التي قضيناها نستظل بخيمتك، علمتنا الصبر وهو أعظم دروس الحياه حتى في أصعب ابتلاء أو امتحان، ولكنك لم تعلمنا كيف لنا أن نصبر بعد رحيلك، عودتنا العمل والانتظار لترجمة الأحلام لواقع، وها نحن ننتظر قدومك منذ سبعة عشر عاما، ولم تخبرنا أن درس الانتظار قد يكون قضبان المسير على طريق الأحلام، ومرت السنوات، ونستذكرك، ونعيش بثوب الحزن الذي يحيط بأرواحنا، فأنت لم ترحل من دنيانا وخالد بقلوبنا، لا زلنا ن?كر تفاصيل ملامحك، ابتسامتك، ضحكتك، أسلوبك، صوتك، بصماتك ولا زلنا نبحث عن الدفء بين أحضانك ونبحث عن عيناك التي تراقبنا وتوجهنا وترشدنا. حقائق حياتنا اليوم مزيج من الحزن والحب المتدفق في جوانحنا منذ ساعة فراقك، فوجدنا للحزن طريقاً آخر لم نسلكه من قبل ومساحة أكبر من اعتقادنا، شيخنا الجليل وللحديث بقية.