متى يأتي جودو وتنتهي اللعبة؟
جفرا نيوز - مهند العزة
المسرح العبثي الذي ظهر في مطلع منتصف القرن الماضي، هو تعبير إبداعي عن اختلاط المفاهيم وانقلاب منظومة القيم الناجمة حينها عن ما شهده العالم من حربين عالميتين مستعرتين وما سبقهما وتخللهما وتوسطهما من ظهور لأنظمة شمولية ذات نزعة استئصالية وأفول لأنظمة وراثية تليدة أو ديمقراطية واعدة.
"في انتظار جودو" إحدى روائع الأدب العالمي التي هي من بواكير نتاج المسرح العبثي للراحل العظيم صومئيل بيكيت الذي ترك النقاد والقراء في جدل ونقاش وحالة من الاجتهاد منذ ظهور هذه المسرحية قبل حوالي 68 عماً حتى الآن في تحليل وتأويل المقصد والمراد، وما إذا كان جودو الذي ينتظره بطلي المسرحية الرئيسيين فلاديمير وأستراجون هو رمزية للحقيقة التي يفني الإنسان عمره باحثاً عنها أو ربما الحلم والأمل اللذان يتشبث بهما الإنسان لكي لا يقع فريسةً لليأس، ليبقى في ذهنه ما يستحق الحياة والانتظار حتى لو كان وهما.
"نهاية اللعبة" بدورها مسرحية أخرى لبيكيت تجسد حالة التضاد والإلتباس؛ من خلال المواقف المتعارضة والمبهمة والحوار المتداخل وأحياناً غير المتجانس بين شخوص المسرحية خصوصاً بطليها الرئيسيين هام وكلوف، حيث يحاول كلاهما التوصل لفهم مشترك لنهاية علاقتهما أو ربما نهايتهما أو نهاية العالم حولهما... المهم أن المسرحية وكما هو معتاد في أعمال بيكيت تنتهي لتبدأ معها أقلام النقاد والمحللين وأفكار المشاهدين والقراء ببلورة فهم خاص غالباً ما سيكون أسير الخلفية الثقافية والاجتماعية والدينية لكل منهم.
المسرح العبثي في ما يبدو تحول لواقع مستصحب تعيشه دول انتظار ما لا يأتي واللعب الذي لا نهاية له، فمنذ أن رفعت القوى المستعمرة يدها ورجلها عن رقبة شعوب المنطقة - لتضعها في مكان آخر-؛ وهذه؛ الشعوب تسبح في فلك تنعدم فيه الجاذبية وتذهب فيه الأصوات سدى حتى دون رجع الصدى.
حمرة الخجل التي كانت أنظمة دول هذه المنطقة البائسة تضطر لرسمها على وجوهها وهي تنتهك الحقوق وتقيد الحريات وتخرق القوانين؛ تلاشت مع نهايات القرن الماضي الذي شهد تصاعداً في موجة الإرهاب التي منحت هذه الأنظمة سر بقائها حيث باتت سافرة الوجه أمام شعوبها وهي تستبد بهم وتستبيح مقدراتهم بحجة "مقاومة الإرهاب" والمحافظة على الأمن والأمان"، إلى أن جاءت "ثورات الربيع العربي" التي اضطرت معها هذه الأنظمة للمهادنة حتى تستبين أين تتجه الأمور، لتجد في ما أفرزته تلك "الثورات" من حالة تفكك داخلي وحروب أهلية وصعود تيارات متطرفة في العديد من الدول؛ فرصةً أخرى مكنتها من استئناف استبدادها وتعميق فسادها على مرأى من شعوبها التي كانت تنظر لما يحدث وراء حدودها فتحمد الله على ما هي فيه من جوع وبطالة وتقييد للحريات طالما ظلت "تنعم بالأمن والأمان" الذي نجح حكامها في اختزاله بالجانب العسكري فحسب.
مع خبوء جذوة ارتدادات "ثورات الربيع العربي، بدأت هذه الأنظمة تبحث عن كارثة أو أزمة جديدة تقتات عليها لتغذي غريزتها وميلها الفطري للاستبداد وممارسة الفساد، لتلبي الصين معقل الشمولية والحكم الفردي النداء بإمطار العالم بفيروس كورونا الذي أفاض على تلك الأنظمة من نعمه قوانين طوارئ وقيود وجباية ومعونات، ليتجذر الواقع العبثي في أجلى صوره في دول "مطرح ما ترسي دقلّها"، فيتولى العسكر محاربة الوباء ويمسك كل غير ذي اختصاص زمام أمر ليس أهلاً له
بينما العلماء والأطباء والتربويون والاقتصاديون ينشرون آرائهم وأفكارهم ومقترحاتهم على استحياء عبر حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي ليحصدوا إعجاب أو مشاركة في أحسن الأحوال، في حين جلست الشعوب ضحية القرارات ودافعة ثمن الأزمات في قفص الاتهام لتتلقى مع مغيب شمس كل يوم التوبيخ من فاشل أو متسلط بائس لا يرى في البلاد أكثر من ثكنة عسكرية أو سجن حربي يدار بالأمر والنهر والزجر.
تجارة الأزمات والكوارث وتسيسها تجارة خاسرة لا تقيم للحكم أوداً ولا تغني بحال عن عملية إصلاح حقيقي؛ إن لم تبادر الدول للقيام بها فسوف تفرضها شعوبها عنوة، ولا ريب أن ثمة من يعرف طريق "جودو" ومن بيده "نهاية اللعبة"، فهل هناك إرادة حقة ونية محقة للاستجابة لمطالب مستحقة؟