فجوة انعدام الثقة
جفرا نيوز - أحمد محمد اللوزي
يقع معظم المثقفين والمحللين بالعحز عن ربط العلاقة بين الصراع الفكري القائم بين العامة وبين أفكار ومحاولات الحكومات المتسلسلة بترتيب التناقضات الداخلية، حيث يصعب على معظمهم الاستناد إلى دليل عملي متبلور لتحقيق وفهم ما تم إقراره في الأشهر الطويلة المنصرمة المتتالية التي بدأت بها القرارات الحكومية سواء كانت ايجابية مقنعة، أو مبهمة مرفوضة.
ولأننا نتابع يومياً القرارات الحكومية المنبثقة من الإرهاق المتزايد سواء على كاهل الفرد أو الحكومة، وبنفس الوقت نتابع التوتر في مساحة الفرص الحكومية، فبتنا عندها ندرك أن هذه الحالة من التنافر بين المجتمع وبين الإرادة الحكومية هو ليس اختلاف بقدر ما هو خلاف واضح متجلي قد يكون سببه التناقضات الفكرية المتوحدة في الكادر الحكومي، أو الاستعلاء من قبل البعض في قابلية التفرد بالتصريحات والتوضيحات التي بات العامة مغيباً عنها.
وباتت الحكومة تتصدر دائماً مشهد النأي عن مشاركة القرار وإعلان رأيها بناءً على الثقل الحاصل بينها وبين انعدام الثقة الشعبية بآرائها ومخرجات أعمالها. وهذا هو مكمن الخطأ المصيري، كونه ناتج عن أساس انعدام الثقة أو عن قناعة أن الخلاف القائم بين العامة ومخرجات الحكومة هو بيت القصيد. فالمجتمع لا يريد تكهنات وبرامج ديماغوجية عبثية فقط، بقدر ما يكون المجتمع بحاجة لخطوات عملية فورية من الحكومات المتتابعة للتخفيف قدر الإمكان من حيثيات وخبايا القرارات المعدومة السابقة التي توارثتها الحكومات القياسية المتتالية امتداداً من فترة بدء الجائحة والتي لم تؤمِّن لها الحكومات المتوترة حتى اليوم أدنى متطلباتها الأساسية التي أثارتها في البداية.
فالخلاف الحاصل بين العامة وبين الحكومة نتج عن تعاظم انعدام الثقة بطبيعة اتخاذ الترتيبات اللازمة وما بين الاحتياجات المتزايدة بالتزامن مع تأمين أدنى درجات الشفافية وإعادة الثقة بين الحكومة والعامة. الأمر الذي يستوجب من الحكومة بذل المزيد من الجهد والإعلام لإعادة جزء من الثقة المفقودة بينها وبين العامة.
إذاً فإن التكتم الحكومي بقضايا الوطن باتت مخرجاً لبعض الفئات لطرح الإشاعة والفتنة لحل القضايا ومحاولة حلها كونها تلامس مشاعر العامة من جهة وتبرر ما هو غامض من جهة أخرى. ونتيجة لتخلف الحكومة عن التصريحات الصريحة، بات يتشكل تياران يتفقان من حيث المبدأ ولكن يختلفان عن بعضهما من حيث الأسلوب فقط.
فمنذ بدء الجائحة وحتى الآن يطرح أصحاب القرار وبعض المتهافتين فكرة الإدارة الآنية العشوائية التي تنطلق من منطلق حل المشكلة الآنية وعدم الاضطلاع على المخاوف المستقبلية أي إصلاح مادون المطلوب بتحفظ غير مفهوم، وذلك سعياً منه للحفاظ على نفس المنهج باختلاف بسيط، وأملاً منه بتجنب تطور حراك العامة ومحاولة منه في تبرير أي حركة استباقية قد يقوم فيها ضد مطالب العامة حتى يؤمِّن أصحاب المصالح حجة لن تكون مقنعة تحت سقف الإصلاحات العبثية الوهمية التي باتت مخيبة لآمال العامة.
إن مضمون النزاع والشقاق والتباين بين الحكومة والعامة أمسى خلافاً واضحاً في أسس ونهج تحقيق الانتصار بين العامة والحكومة وبإضافة الطرف الثالث الذي نجح في ظل غياب المعرفة باستقطاب العامة. ونقصد بالطرف الثالث ذاك الذي استغل غياب التعريف الحكومي بمكنون المشكلة ليولد لدى العامة المفهوم الغيابي – الذي قد يكون مغلوطاً وزائفاً- للقضايا التي لم تنجح الحكومة بتوضيحها. الأمر الذي أدى إلى زيادة الصراعات الإعلامية وتردداتها من تعطش العامة لمعرفة وإدراك الحقيقة الغائبة التي ولدتها نقص التصريحات الشفافة الحكومية في الآونة الأخيرة. وهي بحد ذاتها أضحت مكبوتة في عقول أصحاب القرار، متخوفة من إخراجها كون انعدام الثقة هو الفاصل في عملية التصديق أو الانكار. مما أدى إلى نشوب شرخ واضح موجود بين العامة والحكومة.
إن منهجية إيجاد الثقة أو حلها يقع على عاتق أصحاب القرار فإما أن تكون العامة جزءاً أساسياً من عملية صناعة ومشاركة القرار مستندةً بشكل أساسي وجوهري على أن كل طرف من الأطراف المختلفة في الآراء يملك جزءاً أساسياً لا غنى عنه من أجزاء الحقيقة الغائبة والكاملة، أو أنه لا يمكن لتلك الأجزاء من أن تكتمل إلا من خلال البحث عن جوهر الخلاف بعيداً عن الخلافات الداخلية التي أزمت الوضع وما تزال.
في الحقيقة نحن بحاجة لإدارة منهجية بطريقة منطقية حقيقية واقعية لا تستخف بالطرف الآخر المشارك والمكون الأساسي، وأقصد هنا معالجة هوة الثقة الواسعة بين ما تحمله الحكومة من أفكار من جهة، وبين ممارستها لتلك الأفكار على أرض الواقع من جهة أخرى. ومن ثم نحتاج إلى عملية إدارة إعادة الثقة مع العامة
وأعتقد أن أهم خطوة على الإطلاق يجب أن نخطوها بغية تحقيق ذلك تتمثل في نهضة إعلامية واعية ترتكز في سلم أولوياتها على أساليب الإعلام السليم وإعادة الشفافية بين الأطراف لحل الخلاف، وليس استبدال القائم بما هو موجود.
فهناك بدائل كثيرة متوفرة في استحداث حلول بعيدة عن خلق نسخ متشابه تقليدية لخلق نفس القائم ليحل مكان الموجود. وكون العامة تشعر أنها مهمشةً ومستبعدةً في مشاركتها وتعبيرها عن العديد من القضايا التي لا يوجد لها منطق، الأمر الذي سيزيد من بقاء حالة التوتر الكامل الذي يساعد في شل الحياة الاجتماعية كونها منشغلة في البحث عن بديل عن القائم والموجود ليلبي لها احتياجاتها كون القائم والموجود هو في الأصل انعدام الثقة.