المدينةُ الفاضِلة
جفرا نيوز - بقلم مها صالح
تَتَغيَّر الحَياة وتَتَلوَّن تِبعًا لِمُعطيَات المَرحَلة ، مَا كَان مَقبُولا فِي زَمَن مَضَى لَم يَعُد مَقبُولًا الآن والعَكس صَحِيح. مَا كُنَّا نَظنُّه خَيرا فِي زَمَن مَضَى لَم يَعُد كَمَا الآن بَل انْقلَبَ سَيْفاً عَلَى الرِّقَاب. مَا كَان يُشعِرُنا بالسَّعَادة فَقَد بَرِيقُه الآن وذَابَت مَلامِحُه. مَا كُنَّا نَنظُر إليه بِعيَن المُحِب اضْمَحَل الشُّعور لِشَيء لَا إحْسَاسَ بِه. مَا كُنَّا نَرتَضِيه لأنفُسِنا نَرضَاه لِغَيرِنَا والعَكْسُ صَحِيح، لكِن الآن نَرضَاه لأنْفُسِنا ونَكرَهَه لِغيرنَا مُتَبَجِحِين إنا ومِن بَعدِي الطُّوفَان. مَا كنَّا نَعتقدُ أنَّه سَيبقى جَبلاً شَامِخًا مَهمَا تَقلَّبتِ الحَياة اهتزَّت أركَانَه الآن.
ما كُنَّا نَحسِبُه مَصْدَر سَعَادة أصْبحَ أخْدُودًا يَقذِفُ حِمَمًا تَغْلِي مِن الآلام .
ما كُنَّا نُريدُه أصْبحْنَا نُبغضُه وبقُوَّة. ما تَعلَّمْنَاهُ في مَدرْسَة الحَياة َنُقِشَ علَى الجِلد وَشْمًا لَا يَزُولُ وإنَّ كَانَ مَكسُوا بالانْتِكَاسَات وإسْقَاطَاتِ البَشَر والتِّي هِي السَبَب بكُلّ مَا ذُكِرَت! ..كَمَا قَال الشَّاعِر مَحمُود دَرْويش: "لاَ شَيء يُعْجِبُنِي". أَثَارَ لِنَفْسِي بالابْتِعَاد واتّخَاذ رُكْناً بَعِيد لَا يَرَاه إنْسَان ولَا يَشْتَمُهُ حَيَوان. كَثْرة الانْدِمَاج مَعَ المُحِيط تَفْقِدُك الكَثِير مِن خَوَاصَك المُتَمَاسِكَة ضِدّ أيّ شَوائِب قَد تُأذِيك مِنْ حَيثُ لَا تَدْرِي. تَشْعُر حِينَها أَن مَاضِيكَ كَان عِبَارَة عَنِ المَدِينَة الفَاضِلَة لَيْسَ لأنَها فَعْلًا مَدِينَة فَاضِلَة بَل لأنَكَ عَوَدَّتَ نَفْسَكَ عَلَى الصَّلاَبَة ضِدّ أيّ مُتَغيَّرَات تَجْعَلُكَ سَخِيفًا رَخِيصًا بِلَا قَاعِدَة أَو رَأس أو أسَاس.
الصِّرَاع لَيسَ فَقَط صِرَاع الوُحُوش بَل صِراع البَقَاء ضِمْنَ مَنْظُومَة حِيَاتِيَة تَكُون مُرْتَاحًا بالتَعَايُش فِيهَا ضِمْنَ خُصُوصِية مُعْينَة لاَ تَتَطَفَل عَلَى أحَد ولاَ تَجْعَل أَحْدًا يَتَلَصَصُ علَيكَ أو يُقِيمُ حَربًا ضِدَّ سَلاَمك الدَّاخِلي الذِّي تَوَّجَتْهُ بِغُصُن الزَّيتُون انْتِصَارًا لمبَادئِك لاَ اسْتِسْلاَمًا لرَغَبَاتِهِم.
نَحْنُ في زَمن الإسقَاطَات البَشَرِيَة نَلُوذُ بالفَراَر مِنْ عَقْدٍ تَتَمَلُّكُنا لِنُسقِطَهَا علَى غَيرِنَا لِنُبَرِر لأنْفسِنَا سِلبِيتِنَا أو كَذِبنَا أو حِقْدِنَا أو ظُلمِنا أو خِدَاعِنَا. هذِه الإسقَاطَات فِي عِلْم النَّفس مَا هِي إلَّا ذَريعَة أو حِيَّل ذَكيَة لنَلعَب دُوْر الضَّحِية و المظلُومِيَة في نَفْس الوَقْت نكُون نحنُ مِن تَسبُبِنَا بالأزَمَات الإنسَانِيَة. أصْبَحَ هَذَا العَالَم المُتَلَوِن مَلِيء بالإسْقَاطَات والأنْكَى مِنْ هَذَا أصْبَحَت نَهْج حَيَاة وسَلُوك يَعتَبرُه الكَثِيرُون عَادِي وطَبِيعِي فَمِن خِلاَلَه يَصِل هَؤلاَء البَشَر إلى مُبْتَغَاهُم وأهدَافهم سَوَاء المَادِيَة أو المَعْنَويَة.
عَدَم القُدْرَة عَلَى مُوَاجَهَة الذَّات ومُحَاسَبَتُها هُو مَا يُعَمِّق هَذَا السُّلوك في النَّفْس البَشَريَة.
هَذِه سِمَة الجَبَان أكَانَ ذَكَرًا أمْ أنْثَى. نَحْن بَشَر ولَسْنَا مَلَائِكَة فَلِمَاذَا نَدَع هَذِه الخِصَال السَّيئَة تَتَجَذَّر فِينَا بَدَل مِن تَروِيضَهَا لِنُهَذِبْهَا مِن مَنَبتِهَا ونُحَوَلِهَا مِن شَرِسَة إلى ودِيعَة تَسكُنُنَا لِنَسْكُنُها بِسَلاَم بِلَا مَخَاطِر قَد تُأذِينَا إن تَرَكْنَا لَهَا العِنَان عَلَى المَدَى البَعِيد و ستؤذِي غَيرِنَا عَلَى المَدَى القَرِيب.
إيجَاد الحُلُول للمَخَاطِر المُحدِّقة بنَا وببنَاء الدَّولة علَى أُسُس سَلِيمَة تَبدَأ مِن أَنفُسِنَا وتَنْتَهِي عِند أَنفسِنَا بدُون إسقَاطَات أَو ذَرائِع.
الحَالَة العَامَّة بَين النَّاس واعتِبَارِهَا وَضْع طَبِيعِي يَجِب أَن يُعالِج كلّ إنسَان مَعَ نَفْسه. لَا نُرِيد أَن نُعَمِّم هَذِه الإسْقَاطَات علَى جَمِيع بَنِي البَشَر وإلاَّ فَقَدنَا الإيمَان بأَنفُسِنَا أولًا ومِن ثَمَّ بالعَلَاقَات الإنسَانيَة ومِن ثمَّ فِي كَيَان الدَّولَة القَائِم عَلَى هَذِه الطَّاقَات البَشَريَة .
لَا نُريد أَن نَتعَايش مَع تَزيَّيف مَرحلِي تِبعًا للغَايَات والبَعيدَة كُلّ البُعد عَن الرِبْح طَوِيل الأَمَد، بَل يكون أقصر مما نتخيل العَودَة إلى المَدِينَة الفَاضِلَة هو خِيَار لِنبقىَ بَشَر أسْويَاء لا وحُوش بِثَوب
الأتقِيَاء ولَا مُنَافِقِين لِمُحَاكَاة الأصْدقَاء.
الثَّبَات علَى المَبْدأ بِمعزَل عَن أيّ خَلفِيَة دِينيَة أَو ثَقافِيَة أو إيديُولُوجِيَة مُتطَرِفَة هُو مَطْلَب ولَيسَ خِيَار لِنَبْقَى عَلَى هَرَم العُظَمَاء.