المخابرات.. أصالة الدور وتحديث الأدوات

جفرا نيوز - تأسست المخابرات الأردنية سنة 1964 وللتاريخ أكثر من دلالة، ولنتأمل خريطة العالم قبيل قرار تأسيس دائرة المخابرات العامة وفي السنوات القليلة اللاحقة.

على المستوى الدولي، وضعت حادث خليج تونكين في فيتنام الولايات المتحدة الأميركية في قلب الحرب الفيتنامية ليبدأ واحد من أسخن فصول ما كان يسمى بالحرب الباردة، وفي القارة الأوروبية كان جيل الحرب العالمية الثانية يصل إلى سنوات الشباب ليبدأ في محاكمة تراث القارة بأكمله ويقفز بثورة صاخبة في أيار 1968، وبشكل عام أخذ التنافس بين الأميركيين والسوفييت يتوسع في محاولة لاستقطاب التحالفات في كل مكان من العالم.

عربياً، الشعبية الجارفة للنظام المصري وأحاديث كثيرة عن منجزات كبرى مثل الصواريخ المصرية وحتمية تدمير اسرائيل تعزز شعبيته من المحيط إلى الخليج حتى لحظة الصدمة في حزيران 1967، والتي دفع الأردن ثمناً باهظاً عندما قرر خوض الحرب بجانب مصر وسوريا، وشهدت سنة 1964 السعودية وصول الملك فيصل بن عبد العزيز إلى العرش بعد أسابيع قلقة، واستمرت حالة القلق السياسي في العراق وسوريا.

كانت سنة فارقةً على المستوى المحلي أيضاً، ففي هذه السنة كانت المراحل الأولى لإطلاق حركة مقاومة فلسطينية في الأردن انطلقت في اليوم الأول من سنة 1965 بغطاء ودعم عربيين، واتخذت الثورة طابعاً عالمياً متعدد الأيديولوجيات، وأصبح الأردن مقصداً للمنضمين للثورة من مختلف دول العالم، وللأسف للمتربصين به كذلك.

كل هذه الظروف كانت تتطلب وجود جهاز أمني يستطيع أن يكون متقدماً بخطوات عديدة ليوفر للأردن الخيارات المطلوبة في ظروف معقدة وحساسة، جهاز استخباري واحد ومهني، ولم يتوجه الملك الحسين إلى تأسيس جهاز آخر للأمن الداخلي كما هي الحال في معظم دول العالم، وبقيت مهمة الجهاز قائمة على تجنيب المملكة الأخطار، ومكلفاً بحماية أمنها الداخلي والخارجي، وهو الدور الذي كان يرتبط بصورة كبيرة بطبيعة التحديات الداخلية والخارجية.

حققت المخابرات الأردنية انجازات كبرى في تاريخها، واستطاعت أن ترتقي بأدائها ليكون محلاً للثقة، ونعم كانت الأخطاء موجودة، إلا أن التقييم المستمر ووضوح الرسالة الوطنية وتمسك الدائرة وأفرادها بعقيدة مستمدة من الجيش العربي المصطفوي ومتسقة مع الأجهزة الأمنية الأخرى كانت أموراً تصحح بصورة مستمرة أداء الدائرة، وتجعلها تتحيز للعمل باحترافية ومهنية، وكان للدائرة دورها الكبير في الحرب على الإرهاب في المنطقة، ولوجه الحقيقة، فإن الدائرة تحملت بعد أحداث 11 أيلول 2001 واحتلال العراق 2003 ليتحول إلى بؤرة للجماعات المسلحة ضغوطاً هائلة وقدمت أداء مشرفاً حظي باعتراف العالم بأسره، ولنترك الحبكة الهوليودية التي قدمها فيلم (كتلة الأكاذيب) الأميركي سنة 2008 لنقف على نظرة الأميركيين أنفسهم لتقدم المخابرات الأردنية في ملف مكافحة الإرهاب.

كان الأردن هدفاً استراتيجياً للجماعات الإرهابية، فتواجدها في الأردن من شأنه أن يعمل على تعزيز قنواتها للاتصال والتزويد، ووقفت المخابرات في حالة من الاستنفار المستمر، واستطاعت أن تجنب الأردنيين والدول الشقيقة المجاورة كثيراً من المخاطر والتهديدات، وكان يزيد من ارهاق الدائرة حالة محلية بدأت مع تأسيس الدائرة واستمرت مع الوقت وتمثلت في علاقتها مع المؤسسات الأخرى التي كانت تلقي بالعديد من المشكلات القائمة على أسس معقولة أو غير معقولة على أكتاف الدائرة، مع أن هذا الدور كان يلقي ضغطاً لا ضرورة له على الدائرة، فالمؤسسات لم تدرك التغيرات التي أحاطت بالعالم ولم تدرك أصلاً أنها الدائرة التي نضجت مؤسسياً وسبقت غيرها من الأجهزة الأمنية تسبق جميع المؤسسات الأخرى بخطوات كثيرة من البداية.

بيان الحالة الأمنية للأفراد كانت تمثل متطلباً ضرورياً في الستينيات وبخاصة بعد حادثة الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين في سوريا الذي ألقي القبض عليه بالصدفة، بعد أن استطاع أن يخترق النخبة السياسية السورية، وفي ظل التجاذب الأيديولوجي على أكثر من مستوى، كان يجب تحديد مدى فاعلية الشخص في التيارات السياسية المتطرفة، وبعد ذلك، أخذ التصاعد في استقطاب وتجنيد أفراد للجماعات الإرهابية المسلحة، وبعد أن تغيرت المعادلات وتراجعت أو انحسرت هذه النوعية من التهديدات حتى كادت تتلاشى، فإن العلاقة بين المؤسسات والدائرة بقيت على حالها، بل وألقت بعض المؤسسات على أكتاف المؤسسة بأعباء اضافية متعلقة بمكافحة الفساد وغسيل الأموال.

تنبه جلالة الملك إلى هذه الوضعية، وكانت رغبته في أن تركز الدائرة على مهامها الأمنية بكل الإمكانيات المتاحة، وأن تتصدى المؤسسات الأخرى لأدوارها، وكانت أولى الخطوات الإصلاحية تتخذ مع بداية عهد جلالته، وإن لم تكن تترجم بالسرعة المطلوبة لتداخل الملفات الإقليمية خاصة بعد حرب العراق والربيع العربي، ومع الإدارة الجديدة كان التفاهم واضحاً لإنجاز عملية التجديد والتحديث والتطوير، وهو ما كان يعمل عليه مديرها الحالي اللواء أحمد حسني منذ توليه للمسؤولية.

خلافاً لما يفهم من القراءة الأولى للرسالة الملكية السامية، فالرسالة تعلن عن وصول الدائرة إلى تصور جديد يركز على الأداء الأمني والحفاظ على مرتكزات الأمن الوطني بأشكاله كافة، ولا تدشن ذلك أو تطلقه، فالرسالة في جوهرها موجهة لجميع المؤسسات بأن تتصدى لأدوارها ومسؤولياتها، وأن تتوقف عن علاقتها التي تعتمد من خلالها على مشاورة الدائرة أو الوقوف على رأيها، أو طلب مساندتها فيما يعتبر مهاماً أصيلة للمؤسسات الأخرى، أي أن الرسالة توصف الوضع الجديد للدائرة الذي وصلته من خلال جهود متواصلة قامت بها إدارتها وكوادرها، وأن الدائرة على مشارف مرحلة جديدة للتميز في الأداء والنهج على مستوى أجهزة المخابرات العالمية قاطبة، وذلك من غير تفريط في اندماجها في قيم المواطنة المنتجة وعملها بكفاءة وقدرة مرتكزاً أساسياً في تعزيز سيادة القانون.

يجدد جلالة الملك الثقة في جهاز المخابرات العامة وكوادره، ويستحق الجهاز بكل ما قدمه من تضحيات وجهود على مختلف الأصعدة أن يلقى نفس المستوى والتحية والإشادة من المواطنين الأردنيين الذين يعتبرون الجهاز وأفراده جزءاً من ثروتنا الوطنية القائمة على الإنسان وثوابته ومبادئه، ويستحق الجهاز هذه اللفتة الملكية، والإشادة الشعبية في هذه المرحلة، لأنه سيبقى على الدوام جزءاً من منظومة وطنية تتطلع لتعزيز العمل المؤسسي وتأكيده واستقراره، وكل مؤسسة مقتدرة تقوم باختصاصها ستمكن الجهاز العريق والكبير من تعزيز وجوده في مجال الأمن الشامل الذي يتقاطع مع مختلف أوجه الحياة ويدعم الأداء الوطني فيها بصورة ايجابية على الدوام.

الرأي