أبو جودت...!!



 جفرا نيوز:   بقلم الدكتور : ابراهيم العابد العبادي

نبتسم ... نضحك ... نتألم ... نمتعض ..مشاعر وأحاسيس تختلط وتتداخل في آن واحد...طوال مشاهدة ومتابعة مسلسل باب الحارة منذ عقد من الزمن...ونحن نستعرض  شخصية أبو جودت... رئيس كركون حارة الضبع ..يختلق المشكلات ويوتر الأجواء.. يستغل الفرص وانصاف الفرص.. لتحقيق مصالح شخصية ومنافع مالية...من جيوب سكان الحارة والحارات المجاورة ... نرجسي طموح مجرد من القّيم السائدة التي تعتنقها الأكثرية، يخنع للمسؤولين عنه...ولحكم وجبروت زوجته في المنزل...شخصية تعاني الحرمان والالم الداخلي...وتعكسه على الأخرين  ...على استعداد لفعل أي شيء لتحقيق أهدافه، لأنه ببساطة... ينتمي بطبيعته لعالم الأعمال الجشع ..ويحب ممارسة السيطرة المتنمرة والغطرسة...ويعتقد أنه هو الوحيد المؤهل والقادر على تولي المهام والمسؤوليات....والبقية لا تمتلك بضع من قدراته العقلية والذهنية...
 
نعم ... الغالبية العظمى منا  لم تتوقف ولو لبرهة  لامعان التفكير والتأمل ...فهذه الشخصية تعيش في نفوسنا وبيننا تحكمنا وتؤرقنا وتقوض مضاجعنا ...تثير سخّطنا وتوجع صدورنا...تذكرنا بكثير وكثير من المآسي والألآم التي رافقت  جبروت وقسوة الاستعمار في اقليمنا خصوصاً والعالم أجمع...وما تركه حتى بعد الرحيل من جراح لا  تبرأ ولا تندمل....تتّمثل بأذناب وأعوان وممثلي الاستعمار الذين تمت زراعتهم ورعايتهم لضمان عدم النهضة  وقمع الشعوب ..بل والاستمرار بالخنوع والهوان.
 
أبو جودت يتصرف بمنتهى الحرية....يقتل ولا يرحم،  ويبطش بدم بارد، ويمتلك  ترغيباً وترهيباً ولا يشبع أو يقنع...يأخذ ولا يعطي.. يٌّطّلق كلتا يديه في جيوبنا وأفواهنا لينتزع القرش واللقمة...  يتخذ قرارته ...دون مشورة.. حتى لم يخطر بباله أن يستشيرنا ...ولو بشكل صوري.. عبر استبيان غير رسمي...او حتى استطلاع وهمي للرأي...يخطط ويفرض علينا...ويجبرنا على حُسن التنفيذ.. تلبية لرغباته وشهواته الشرهة ونزعاته التي لا تنتهي... أو حتى تتوقف عند حد ما...وعلينا ان نتحمل نتائج تلك القرارات كون الخطأ ناجم عنا...يتلاعب بالقوانين والأنظمة والتعليمات والاجراءات.. يفرضها ويعدلها حيث يشاء وبما يخدم مصالحه وزمرته البهية أولاً وثانياً وعاشراً حتى مماتنا...وعلينا الطاعة العمياء دون توجسات رمزية ...لكن والحق يقال نمتلك حق الشجب والاستنكار !!!... باعتدال دون مبالغة أو إسراف... حتى ضد ارتفاع الأسعار وجشع وطمع أبغض التجار!!!
 
أبو جودت ولدنا وأياه بنفس الديار...لكنه لا يعير لنا أي اهتمام أو اعتبار...نحن بالنسبة إليه رعاع ..صوت جلبة طبل ومزمار...يمّن علينا بالأنظار... ويغض الطرف بالإنكار.. رغم إدراكه أن وجودنا واياه قّدر محتوم بهذه الدار.. وانه من دون كبيرنا وصغيرنا لا يملك  وجوده بلا افتخار... فنحن الأحرار والثوار والمهاجرين والأنصار...نحن البارود  وزند النار.
 
قضيتنا ...مشكلتنا...ومصيبتنا ليست بأبو جودت واحد...او حتى عشرة أو مئة من أمثاله...فأبو جودت بات علامة مسجلة.. بنُسخ أصلية ومقلدة.. تجدها في شتى الطبقات والفئات...بشكل هرمي متنامي.. كلما أرتقى أبو جودت وأصبح كبير ..صَنع تحت منه هيئات وادارات واقسام.. يتربع على كل منها أبو جودت صغير...
الأغرب والأمر...اننا رضينا بوجود أبو جودت...وتناسينا البطش والعنفوان.. ان أبدى لنا بريق ابتسامه أو أشار الينا بطرف بنانه.... تناسينا الجوع والحرمان.....ان أغدق علينا بكلمات معسولة يخالطها حنان.. غضضنا الطرف عن كونه صُنع الاستعمار...وعن كونه اداة البيروقراطية المقيتة.. وراعي الظلم والطبقات... رغم أنه منا ومثلنا...الا انه تميز عّنا...اننا صغرنا امامه ليكبُر ... وجعلناه فارساً يمتطينا وهو يصول ويجول بالميادين...
 
أبو جودت يعلم ويدرك مثلنا تماماً...أن هناك عهد مكتوب برقعة ورقية، ووعود عينية  وشفهية.. اصبح ينطبق عليه قول الشاعر (نَقَضتمْ يا كرامَ الحيِّ عهداً ... حَسِبناهُ يدومُ لألفِ عامِ)...تحكمها قواعد ومرتكزات وعناصر وأسس...الخ....لكن آل ابو جودت  وزبانيته واعوانه وفئاته ومجموعاته ...يعبثون صبح مساء بهذه المنظومة...ويساندهم مجالس عدة مختارة بعناية...منها للتشريع والترقيع...ومنها للرقابة والصبابة...ومنها للتفسير والتبرير ومنها لسرد وتبيان التفاصيل...ونحن مشدوهين ومصدومين.. ويقيننا أن ذلك ليس عدلاً وليس انسانياً ولا شرعياً...ونبارك لهم ونطمئنهم أن الوضع مميز والحال في أحسن حال...ونتمنى ان تدوم نعمة النوم والنسيان... نرقد بالغضب مشحونين...ونصحوا... كُّموج مُطبلين ومسحجين...
 
بَيْنَ الْفَيْنَةِ وَالأُخْرَى افتراضاً...يتكرم أبو جودت بفتح أبواب الحرية .. لتعانق آراءنا كبد السماء... مع  لزوم شرط المنع  من التعبير او الحديث...يدعونا  لبذل قصارى الجهد...دون ان يُمّلكنا فرصة عمل بالحد الأدنى من الأجور.. فيما زيدٌ وعمرو...يتقاضون مرتبات شهرية تبلغ عشرون...ثلاثون.. اربعون.. وحتى مائة ضعف الحد الأدنى...يشجعنا على الاستثمار وأغلبنا لا يملك في جيبه دينار...!!! أحياناً يخرج منا صوتاً مبحوحاً مخنوقاً.. عّبر فئة تسمى عرفاً معارضين...  فئة ملّت من حال المسحوقين.. عددها بضع وسبعين.. تتناقص ظاهرياً  يومياً...الى دون الخمسين...لكنها تكبر وتتمدد داخل انفاس الملايين وعبر صدور المقهورين...كالسرطان المستشري في جسد الوطن المسكين... يحاول قمعهم شرطي مُجند... ينفذ أوامر أبو جودت... بلا منطق أو عرف او دين...فهذه  أوامر القادة المبجلين..!!!
 
فجأة ومن غير سابق إنذار...يّطل ابو جودت عبر الأخبار وقد استضافة مذيع أصفر الوجه لقلاق ثرثار.. يدين سلوك همجي اقترفه أحد الانفار... فهذا عمل شائن أهان كرامة المواطنين...وليعلن عبر الملاء عن حقبة جديدة تحمل خطط واستراتيجيات واهداف مربوطة بمؤشرات أداء...واطار زمني رزين... وميزانية تتجاوز مئات الملايين...لنكتشف بعد ذلك أن الوضع  قد جرفنّا من حفرة وحل الى مستنقع طين...
 
هذا الحال أبو جودت قد  سار بنا نتوجع منذ حين... يومياً نتراجع  منذ عقود وسنين... حتى أشتد البأس بنا واضحينا نوازي نكبة فلسطين... ختاماً أقولها ولربي الخالق أشكو الحال...في داخلنا مارد محبوس بقمقم مظلم .... ينتظر لمسة سحرية...ليصحوا من غفوته شبه الأبدية.. ليخرج ويصبح أبو جودت بحلته الجديدة.. يعاود سرد قصته ضمن جزء جديد ...من مسلسل أمده بعيد... .حمى الله الوطن... حمى الله الأردن أرض الحشد والرباط.