“هذا الرأي يخص الكاتب”..!

جفرا نيوز- كتب علاء الدين ابو زينة 

تحرص الكثير من المطبوعات وجِهات النشر على تذييل منشوراتها بإحدى تنويعات عبارة "هذا الرأي يخص الكاتب”. وتخدم العبارة أكثر من غرض؛ فهي تُعفي الناشر من التنميط بافتراض أنه من اللون الذي يعرضه الكاتب، وتتيح لجهة النشر أن تعرض نفسها كمنبر ليبرالي غير منحاز ومنفتح على مختلف الاقتراحات، كما تتيح لها أن تكون وجهة يقصدها – فيمن يقصدها- كُتاب وازنون رائجون مختلفو العُروض –وتبعاً لذلك يؤمها عدد أكبر من القراء.
وما يزال هذا يعمل في الغرب، لكنّه لا يعمل في المناطق حيث ليست الرقابة شعبية فحسب، وإنما مؤسسية تمارسها أكثر من جهة قادرة على إلحاق الضرر. فإذا جرّب في هذا ناشر في بلادنا، سيجد من يجتزئ منشورات بعينها من السياق بقصد تصنيف المطبوعة أو جهة النشر ككل، ولن يُقتصر الأمر على التصنيفات الفردية التي يمكن تحمُّل كلفتها، وإنما قد تصل الأمور إلى قيام جهات رسمية بوقف المطبوعة، أو إغلاق دار النشر، أو حتى حبس الناشر على أساس شيء لم يكتبه هو، بل وحاول الهروب بتذييله بعبارة التنصُّل المذكورة.
في فترات سابقة كانَت تُعتبر مظلمة، كان المثقفون ومحبو المعرفة يتبادلون المنشورات والكتب الممنوعة، المهربة –حرفيّاً- بنسخها وتصويرها وتدوير النسخ الشحيحة بين الثقات. وكان حمل جريدة معينة أو كتاب في الجيب أو السيارة أو العثور عليه في المنزل سيعني الاعتقال وخراب البيت. وبدا في وقت ما أن هذا يتغيّر عندما محت الشبكة الإلكترونية العالمية الحدود وأصبحت المعلومة على بعد "كبسة زر”. لكنّ الدول اجترحت طرقها لقطع الطريق، بحجب المواقع والروابط، والاستمرار على الأقل في منع تداول الكتب والمطبوعات التي تعتبرها "خطيرة”، وفرض رقابة صارمة على محتوى المطبوعات والمواقع –تحت طائلة المحاسبة.
وما الممنوع؟ في السابق، كان كل شيء يتعلق بالفلسفة المادية، ونتاجات ما كان يعرف بـ”الكتلة الشرقة”، وكل ما فيه كلمة "دين”، أو فيه إلماح إلى الجنس، أو يصف شكلاً من أنظمة الحكم، أو يوثق رواية بغير المفردات الرسمية، أو يحاول تعريف الثورة أو المقاومة أو يتعقب جذور التغيرات الاجتماعية، ممنوعاً. وحتى الأفكار الكونية الكبيرة مثل النظريات التطورية أو القراءات الأنثروبولوجية التي تسرد تصورات عن الكائنات كانت ممنوعة.
الآن، تغيرت التفاصيل ولم يتغير الجوهر. ما يزال هناك عداء منهجي للمعرفة – والإنتاج- في كل ما ذُكر. ما تزال الكُتب تُمنع في دول عربية لأنها "تمس بالمعتقد”، أو "تروج للانحلال”، أو "تخرب عقول الشباب”، أو "تهدد الأمن الوطني/ أو الاجتماعي” –والكثير من الذرائع. والذي يختبر الطريقة التي تقَّيم بها المنشورات والكتب، سيعرف أن أغلب القائمين على هذه المهمات أُميّون، سطحيون، صيادون ينبشون وينقضون الغزل لاصطياد كلمة واحدة تتيح "الإيقاع” بالكاتب والكتاب وكأنه عدوّ متسلل!.
أتصور أن المعايير المستخدمة اليوم لو سادت في أوقات سابقة لما ترجم العرب الفلسفات والاساطير الإغريقية، ولا الكثير من الأدبيات والنظريات العالمية. الآن، يعمل منطق يقوم على أن تعتيم الحقيقة يلغيها ويجعلها كأنها غير موجودة. وإذا تم صمّ الآذان عن سماع الأصوات الأخرى، فكأن ذلك يعني أنهم لم يقولوا ما قالوه، وكأن كل صوت مغاير هو اعتداءٌ لا يمكن التسامح معه على "الشخصية” المتزمتة المعتقدة في نفسها الصلاح المطلق.
المشكلة أن هذا كله لم يصنع "شخصية” متماسكة، "محصنة من تلاعب الآخرين” يمكن تمييزها، والتي يمكن أن تتفاوض مع الآخرين من موقع النظير. وإذا كان ثمة سِمات، فهي الميوعة والضياع وفقدان الهوية والقطيعة المعرفية. والنتيجة الدائرية هي عصر من الانحطاط تحت عنوان حماية الشعوب من "المعلومات المسمومة” وما شابه. والباعث فقدان السلطات الكامل لأي ثقة في الذات، حيث سيعني وضع معروضها في أي مجموعة من البدائل تعرية تهافته، ولذلك يحسُن إعدام البدائل
لا حلّ لهذا المأزق في الحقيقة، إذا كان التصريح بأن الأطروحات –أي أطروحات- هي "رأي يخص الكاتب” لا يكفي لتوسيع المساحات وتنويع البدائل. وسوف تبقى محاولات اجتياز الحدود المعرفية مغامرات فردية، فيها الكثير من قطع الحدود المحجوزة بالأسلاك الشائكة ودوريات التعقب وكلاب الأثر.