الأسرة والمدرسة بين ثورتين

جفرا نيوز - كتب حسني عايش - كان الاقتصاد السائد في عصر ما قبل الثورة الصناعية هو الاقتصاد المختلط، أو اقتصاد الكفاف. أي حين كانت الزراعة وتربية الماشية عمادي الاقتصاد وحياة المجتمع. كان الفلاّح يزرع سنوياً أو حسب الفصول المحاصيل والأصناف الزراعية اللازمة لمعيشته وبالمقادير الكافية. وكان الفائض منها يبادله بما ينقصه أو يحتاج إليه منها، أو يبيعه للمدينة، ويشتري بثمنه البسيط ما يحتاج إليه من لباس وحذاء، أو من أدوات محلية الصنع كسكة الحراثة… وكانت المدرسة في أثناء ذلك كُتّاباً للقلّة.
أما الأسرة، فكانت إبان ذلك الاقتصاد منتجة وجميع أعضائها يعملون داخل البيت وخارجه وينتجون الأصناف الزراعية والحيوانية التي يحتاجون إليها سنوياً أو موسمياً، ويتبادلون الفائض بما يحتاجون إليه أو يخزنونه لاستخدامه عند الحاجة إليه. وكانت جميع الأسر تقريباً متماثلة في هذا الشأن. وبالثورة الصناعية وبتأثير الاستعمار تغير كل شيء وإن بالتدريج، فقد أخذت الزراعة المختلطة أو اقتصاد الكفاف يتحولان إلى الاقتصاد الحديث، أو اقتصاد السوق، أو الاقتصاد النقدي (Cashcrops) وتحولت الزراعة إلى صناعة، والتنوع إلى الأحادية، أي أنه بدلاً من زراعة الفلاح عدة أصناف سنوياً أو فصلياً، صار المزارع او الشركة الزراعية تزرع صنفاً واحداً كالقطن في مصر، او البندورة، او الخضار في الأغوار. صار على المزارع أو على الشركة بيع الإنتاج في السوق، وشراء ما يحتاج إليه من السوق أيضاً. ومن هنا بدأت الأزمة السنوية أو الموسمية بالسعر الطالع أو النازل في السوق اي حسب العرض والطلب، وهو ما لا يدركه بعضهم حين يشكون من انخفاض الأسعار بسبب زيادة العرض عن الطلب أو من سرورهم بارتفاعها لزيادة الطلب عن العرض فيها.
وإلى جانب ذلك أخذت بعض الصناعات تنشأ، والعمالة اللازمة لها تنتقل من الزراعة إليها. وباتساعها واتساع نشاط الدولة وتنوعه صارت مهارات الاقتصاد المختلط لا تكفي للقيام بها، فنشأت المدرسة النظامية للبنين، ثم للبنات، أي تحول الكُتّاب إلى مدرسة لتلبية متطلبات الدولة الحديثة.
وبمكننة الزراعة انخفضت نسبة العمالة اللازمة للقيام بها ففي أميركا كما ذكرنا في مقال سابق يعمل 1.3 % فيها ويحول فائض عمال الزراعة إلى الصناعة، التي أخذت نسبة العاملين فيها تتفوق على العاملين في الزراعة، وبمكننتها وآليتها اليوم، انخفضت النسبة فيها بينما زادت في قطاع الخدمات المستعصي على المكننة، أي أن عمالته تزيد طردياً مع مكننته (فكر في العمالة في فندق، أو في صيانة السيارات…..)
ونتيجة لهذا التحول اضطر رب الأسرة إلى البحث عن عمل في الصناعة أو في الخدمات أو في الحكومة، لتوفير متطلبات الأسرة التي تحولت من منتجة إلى مستهلكة يوماً بيوم، فكان لا بد من خروج المرأة إلى العمل لاستكمال ما تحتاج الأسرة إليه.
ها نحن اليوم نقف – وبعضنا يجلس أو ينام- أمام ثورة صناعية جديدة، تعرف بالثورة التكنولوجية أو الرقمية. ولتوضيح الفهم أذكر القارئ أن جميع العصور الحضارية تأخذ اسماً تكنولوجياً بدءاً من العصر الحجري وانتهاء بالرقمي، أي ان التكنولوجيا هي صانعة التاريخ، وإن شئت فقل إنها مغيرة التاريخ، أعجبك ذلك أو لم يعجبك.
مشكلة التكنولوجيا (الجديدة) في كل عصر إقبال الناس عليها وولعهم بها لأنها تخفض أعباءهم فلا يرون فيها إلا ايجابياتها، غير أنهم بمرور الوقت يكتشفون سلبياتها ويعانون منها، ولكنهم لا يتخلون عنها الا بتكنولوجية جديدة، وهكذا.
وبين هذه وتلك تتكون هوة عميقة بين القيم السابقة أي الخاصة بالتكنولوجيا السابقة المستمرة بعدها والقيم الحديثة القادمة مع التكنولوجيا الجديدة، تسقط فيها مجتمعات وتقع فيها – أحياناً– أحداث جسام.
وها نحن الآن في صراع بين التعليم المدرسي عن قرب، الذي جاءت به الثورة الصناعية أو التكنولوجية السابقة، والتعليم عن بعد الذي تجيء به الثورة الصناعية أو التكنولوجيا الرقمية الجديدة.
لقد أخرجت الثورة الصناعية الأسرة من البيت إلى مكان العمل. ويبدو أن الثورة الجديدة تعمل على إرجاعها إليه بالتعليم والعمل عن بعد، وكأن البلاد ستعيش في يومٍ ما في حالة طوارئ أو منع تجول شامل دائم، فهل سيحصل هذا؟ فكرّ.