الوباء أعاد تشكيل الاقتصاد الصيني
جفرا نيوز- كانت الصين هي الاقتصاد الكبير الوحيد الذي سجل نموًا إيجابيًا في العام 2020. وبحلول الربع الثالث من العام، عاد الناتج المحلي الإجمالي إلى مستوى ما قبل الوباء والأزمة الاقتصادية. وتشير أحدث المؤشرات إلى أن الانتعاش الاقتصادي في ذلك البلد يستجمع الزخم بسرعة. وكان العامل الأكثر أهمية في هذا الأداء الرائع هو احتواء الأزمة الصحية التي بدأت في ووهان في كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي، والتي يبدو الآن أنها تحت السيطرة في الصين، حيث يتم الإبلاغ عن أقل من 100 حالة جديدة في اليوم في الوقت الحالي البلد كله. وكانت الصين أول بلد يدخل الإغلاق وأول من يخرج منه في آذار (مارس) 2020. وعلى عكس أوروبا أو الولايات المتحدة، لم تشهد الصين موجة ثانية من العدوى.
ولكن، على الرغم من الوضع الاقتصادي والصحي الملائم إلى حد كبير، فإن الحياة في الصين بعيدة كل البعد عن أن تكون طبيعية. كانت الندوب التي صنعها الوباء عميقة للغاية بحيث أنها تمنع الأسر الصينية من استئناف عاداتها القديمة في الاستهلاك. وعلى الرغم من أن المصانع فتحت أبوابها في الربيع وعادت إلى العمل بطاقتها الكاملة تحت ضغط الحكومة، ما يزال المستهلكون الصينيون يقصرون مشترياتهم على الأساسيات بشكل شبه حصري. وما يزال ارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض الدخل، والخوف من العدوى تلقى بثقلها على الاستهلاك وتقيده.
ولمعرفة الفصل بين جانب العرض وجانب الطلب في الاقتصاد الصيني، من المفيد النظر إلى حركة السكك الحديدية، التي تشكل متغيرًا رئيسيًا في فهم الديناميات الأساسية. قبل قدوم جائحة "كوفيد -19″، وبالنظر إلى عدم موثوقية أرقام الناتج المحلي الإجمالي الرسمية، كان محللو الصين يراقبون على نطاق واسع حركة النقل بالسكك الحديدية للبضائع والركاب لقياس التغيرات في نشاط الإنتاج الصناعي والاستهلاك الخاص، على التوالي. فعندما تغادر البضائع النهائية مصنعًا، يتم شحنها عبر البلاد للمشتريات المحلية، أو إلى أقرب ميناء للتصدير. وبالمثل، يستقل المواطنون الصينيون القطارات (أكثر من الطائرات) للاستهلاك الراقي مثل السياحة أو الترفيه -ناهيك عن رحلات الأعمال.
بعد انكماش طفيف بين كانون الثاني (يناير) وآذار (مارس)، استعادت حركة الشحن في السكك الحديدية زخمها وتجاوزت مستويات ما قبل الأزمة. ومن ناحية أخرى، تقلصت حركة قطارات الركاب بنسبة 87 في المائة بالمعيار السنوي في شباط (فبراير)، في ذروة العدوى في الصين، ولم تعد إلى مستوى ما قبل الأزمة. وفي تشرين الأول (أكتوبر)، كانت الحركة ما تزال منخفضة بنحو 15 في المائة مقارنة بالشهر نفسه من العام 2019. وهذا المؤشر، الذي يمثل في الغالب رحلات العمل والترفيه في جميع أنحاء البلاد، يتناقض مع البيانات الواردة من إحصائيات ركاب المترو، والتي أظهرت عودة أسرع إلى الطبيعية في التنقل الداخلي في المدن.
وهكذا، حتى مع أن القيود المفروضة على الحركة في الصين بسبب الوباء أصبحت الآن محدودة للغاية، ما يزال الناس يتصرفون بحذر شديد. ويبدو أنهم يتنقلون داخل المدن للعمل والتسوق، ولكنهم يحدون من الأنشطة الترفيهية والسياحة -أو يلجأون إلى وسائل النقل الخاصة أو يذهبون إلى مناطق الجذب السياحي الأقرب. وأول المضامين هو أن الخوف من العدوى يستمر في التأثير على الحياة الاجتماعية في الصين، حتى بعد عدة أشهر من ذروة العدوى. ويبدو أن إبقاء عدد حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد منخفضًا لا يكفي لتوليد انتعاش قوي في الاستهلاك الاجتماعي.
بعد أن واجهوا وباءين في أقل من 20 عامًا؛ الـ”سارس” في العام 2003 و”كوفيد -19″ الآن، من المنطقي أن يكون المستهلكون الصينيون حذرين بشكل خاص. وبمجرد أن يتبدد الخوف بفضل حملة تلقيح شاملة، فإنهم ربما يعودون إلى عاداتهم القديمة.
لكن العودة البطيئة إلى الحياة الطبيعية تطرح أسئلة أوسع وأكثر جوهرية حول تداعيات الأزمة. قد تؤدي أشهر من القيود المفروضة خارجياً أو المفروضة ذاتيًا إلى تغيير العادات وأنماط الاستهلاك الاجتماعي بشكل دائم. ويتطلب القيام بعمل ما لأول مرة التخطيط والاهتمام. وعندما يتم تكرار السلوكيات في إعدادات ثابتة، فإنها تصبح روتينية. ووفقًا لبعض الدراسات الاقتصادية حول تكوين العادات، فإن الأمر يستغرق البشر نحو شهرين في المتوسط لتكوين عادة جديدة.
حتى مع أننا نعيش في عالم سريع التغير، فإننا جميعًا محاصرون في "حلقات العادات الدائرية” التي تتضمن إشارة، وعملاً، ومكافأة. إننا نذهب للتسوق في لحظات محددة من اليوم، أو نتناول العشاء في الخارج في أيام محددة من الأسبوع. ويميل الناس إلى تجنب المخاطرة حتى عندما تكون كلفة التغيير في مهامهم اليومية منخفضة -وهو ما يسميه الاقتصاديون السلوكيون "التحيز للوضع الراهن”. وللتغلب على هذا الجمود، من الضروري حدوث صدمة شديدة إلى حد ما لتكوين عادة أو التخلص منها. وإذا تغيرت الإشارة التي تؤدي إلى سلوك معين بسبب نمط حياة جديد (سواء كان ذلك طوعًا أم غير ذلك)، فإن روتيننا يتغير أيضًا.
على سبيل المثال، لا تؤدي ترتيبات العمل الذكية إلى القضاء على التنقل اليومي في المواصلات فحسب. إنها تقتل أيضاً العديد من الإشارات التي كانت تستخدم للحث على نوع معين من الإنفاق في الطريق إلى المكتب أو العودة إلى المنزل. ولا يقتصر الأمر على أن المستهلكين الصينيين يتنقلون في القطارات بشكل أقل، إنهم أيضًا يأكلون في الخارج بشكل أقل، ويشترون السلع والخدمات عبر الإنترنت بنهم أكبر من ذي قبل. وفي الربع الثالث من العام، كان استهلاك الخدمات التعليمية والثقافية والترفيهية ما يزال أقل بنحو 20 في المائة من العام السابق. ويحصد عمالقة التجارة الإلكترونية وتوصيل الطعام في الصين، مثل شركات "علي بابا”، و”ديانبينغ”، و”ميتوان ديانبينغ”، فوائد الزيادة في عدد المستهلكين عبر الإنترنت.
حتى عندما تصبح الحياة طبيعية حقًا، قد تصبح بعض هذه التحولات في الإنفاق دائمة. وعلى سبيل المثال، كثيراً ما يُعزى إلى تفشي مرض الـ”سارس” في الصين في العام 2003 تسريع التحول الهيكلي إلى التجارة الإلكترونية والمدفوعات الإلكترونية، والذي أدى إلى ظهور بعض الشركات المحلية العملاقة في هذا القطاع. وبالمثل، أجبرت الصدمات النفطية في السبعينيات المستهلكين والشركات على تبني ممارسات موفرة للطاقة، وبالتالي خفض الطلب على النفط من الناحية الهيكلية.
وبالمثل، قد تتأثر حركة السكك الحديدية من الناحية الهيكلية بسبب جائحة "كوفيد -19″، سواء من حيث انخفاض رحلات الأعمال بسبب الاستخدام الواسع لعقد المؤتمرات عبر الفيديو أو تغيير العادات السياحية. ونتيجة لذلك، قد يتحول إنفاق المستهلكين نحو السلع المعمرة المناسبة للرحلات القصيرة، مثل السيارات الكهربائية، التي كانت بكين تشجعها حتى قبل الوباء. وقد تواجه القطاعات الأخرى تأثيرات مماثلة من تبديل الإنفاق.
قد يكون الإرث الهيكلي لـ”كوفيد -19″ هو إعادة تخصيص الموارد بين وداخل القطاعات، والتي يمكن أن تمنع العودة الفورية إلى الإمكانات الكاملة، حتى عندما يتم الوصول إلى مناعة القطيع، حيث ستظل بعض الطاقة الإنتاجية غير مستخدمة. ولكن، على المدى الطويل، قد يؤدي تخصيص الموارد بشكل أكثر كفاءة بعيدًا عن القطاعات التي استفادت من بعض الجمود السلوكي إلى تعزيز الإنتاجية وزيادة إمكانات نمو الاقتصاد.
نظرًا إلى وجود الصين الآن في مرحلة متقدمة في مكافحة الفيروس، فإن تجربتها يمكن أن تقدم دروسًا للبلدان الأخرى التي تتطلع إلى فهم عالم ما بعد فيروس كورونا. سوف تجد بعض الشركات والمؤسسات نفسها مُجبَرة على الخروج من السوق بعد أشهر من كبح النشاط أو تجميده، بينما ستقوم أخرى بتكييف نماذج أعمالها مع مشهد متغير. ويشكل الوباء تجربة اجتماعية-اقتصادية طويلة ومكثفة بدرجة كافية لتغيير أذواق المستهلكين بشكل دائم أيضًا.
*Edoardo Campanella: زميل في "عالم المستقبل” في مركز حوكمة التغيير بجامعة مدريد للأعمال. وهو المؤلف المشارك، مع مارتا داسو، لكتاب "الحنين الإنجليزي: سياسة العواطف في غرب ممزق”.