هيبة المسؤول بين الامس واليوم

جفرا نيوز - د. حفظي اشتية

نستحضر بالحنين في أذهاننا صورة المسؤولين قبل زماننا هذا، ونستذكر كيف كان يتم اختيارهم بعد طول تجريب وتمحيص ليحتلوا مواقعهم، وليكونوا مؤتمنين على حقوق موظفيهم، وليضبطوا إيقاع العمل والعلاقات بمعيار الحزم والعدل. 

وتالياً أضع بضع تجارب واقعية عايشتها في حياتي العملية، لعلّ في عرضها إثارة للشجن الذي يحثنا على البحث عن سبل العَوْد الأحمد إلى ما كنا عليه. 

1) في سنة 1975، عُينت معلماً، وانتظمت في عملي، وانتظرت ثلاثة أشهر لتسلّم الدفعة الأولى من رواتبي كما كان مُتّبَعاً، فلم ينزل راتبي أُسوة بزملائي الجدد، فراجعت الوزارة، فبحثوا عن ملفي فلم يجدوه، وترددت إلى دائرة شؤون الموظفين والملفات والمالية ما يقرب من شهر دون أن يُعثر على الملف، فاندفعت غاضباً نحو مكتب أمين عام الوزارة، وغلبني الانفعال وأنا أشرح الحال، والرجل الوقور المهيب يستمع إلى أن أنهيت بعد أن أدهشني صبره وصمته، ثمّ همّ واقفاً وقال: تعال يا بني اجلس مكاني، وقُمْ بعملي ريثما أذهب لأبحث لك عن ملفك، فأصبت بالذهول وخجلت من نفسي. لكنه سرعان ما تناول ورقة صغيرة كتب عليها بخط منضّد جميل: (أريد ملفه حالاً).تناولتها وعدتُ مسرعاً إلى دائرة شؤون الموظفين، فترك الجميع كلّ ما في أيديهم، وانقلبت المكاتب رأساً على عقب، فظهر الملف، وظهر معه أثر الحزم وتجلّت الجديّة والهيبة. 

2) وفي سنة 1978 كنّا معلمي مدرسة في أقاصي الأغوار، وكنا تابعين إداريّاً إلى مديرية التربية والتعليم في السلط، وكانت المديرية مبنى متواضعاً في وسط المدينة: بضعة مكاتب، وبضع موظفين يشرفون على مدارس محافظة واسعة. 

وقد عانينا من سوء إدارة المدرسة فشكونا الحال إلى مدير التربية، فنزل بسيارته(الفولكس فاجن)، واجتمع بالمعلمين ومديرهم، واستمع بوعي وفطنة إلى أقوالهم، ثم التفت إلى مدير المدرسة فنقله معلماً إلى مدرسة أخرى، واستبدل به مديراً جديداً، فعمّ الرضا، وشاع الأمل، وأقبل الجميع على الجدّ والعمل. 

3) في سنة 1988، حصلت على منحة من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم للحصول على شهادة الماجستير في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وكنت آمل أن أعود لأعمل ضمن هذا التخصص، لكني رجعت إلى عملي السابق الذي لا يحتاج إلى الشهادة الجديدة، فكتبت مقالاً في جريدة الرأي أتساءل فيه عن فائدة هذه الدراسة وعن جدوى ضياع وقتي وغربتي وتفوقي(حصلت على مرتبة الشرف الأولى)، فاتصل بي في اليوم نفسه الذي نُشرِ فيه المقال مدير مكتب وزير التربية والتعليم، وطلب حضوري عاجلاً، فتوجهت وَجِلاً أضرب أخماساً بأسداس، وعندما قابلت الوزير أحسن استقبالي وهدّأ من روعي، وشكرني على تفوقي، وقال: ابحث عن أيّة فرصة ضمن هذا التخصص في أيّة جامعة، وسنعمل على إعارتك فوراً إليها. فرجعت ممتلأً نشوةً وثقةً وامتناناً. 

4) في سنة 2007، اختلفتُ وأحد زملائي مع رئيس أسبق لجامعتنا بشأن خطط مواد كَلّفَ بإعدادها بعض زملائنا، دون أن يمر التكليف عبر القنوات الرسمية: القسم والكلية ومجلس العمداء.....إلخ، فكثُرتْ مراجعاتنا ومكاتباتنا، واستمر إلحاحنا وقسا أسلوب خطابنا، وعندما يئسنا من إنصافنا داخل الجامعة توجهنا بالدعوى إلى المحكمة، وعلى مدى سنتين في الجامعة والمحكمة، لم يوجه لنا الرئيس أيّة عقوبة، ولم يهددنا، ولم يضيّق علينا، ولم يكلّف من يراقبنا، ولم يتسقّط هفواتنا، ولم يسلّط علينا مَن يوقعنا في أيّ شَرَكٍ وظيفي أو مسلكي. 

خسرنا قضيتنا لأسباب لم تطعن بحقنا، لكننا لم نخسر احترامنا لرئيسنا الذي بقي كبيراً في أعيننا لأنه لم يحول الخلاف إلى معركة ضغائن طاحنة، ولم يستمرئ البطش بنا وهو القادر علينا!فأين نحن الآن من مثل هذه النماذج؟؟ 

لاشكّ في أنّ بعض هذه القيم النبيلة ما زال له أصداء في مجتمعنا، وتلوح له بعض أضواء في مؤسساتنا. 

لكنّ بعض المسؤولين في بعض المؤسسات لم يَعُد يتحمل من معظم رعيته نقداً بناءً، ولا انتقاداً صريحاً أو إلماحاً، ولا يطيق أن يسمع نصيحة، ولا ينصر مظلوماً، ولا يتحمل صيحة متألم، ولا يفزع إلى إغاثة صريخ صاحب حقّ لإنصافه، يُصعِّب كلّ يسير إن خدم هدفه، وييسّر كلّ صعب إنْ وافق هواه، لا يريد بجانبه قوياً خشية أن ينكشف ضعفه، ولا سوياً حتى لا تظهر سوءاته، يتصيّد الهفوات للجادّين، فإن لم يجدها تطوّع له من يخترعها، ويتجاوز عن خطايا العابثين، يضخّم الإنجازات الصغيرة، ويصوّر نفسه وحيد زمانه قد شأى من قبله، وأعيا مَن بعده، تحيط به فئة قليلة من المستفيدين قناصي الفرص، الذين حصلوا على أضعاف ما يستحقون، يزيّنون له القبيح، ويقبّحون في نظره الجميل، عقولهم خاوية جوفاء كالطبول التي يقرعون، ماكرون في التموّه للوصول إلى مآربهم، ماهرون في إبعاد الناجحين عن ملعبهم وإفراغ الميدان لهم، فيخلوا للقبّرة البرّ والجوّ فيتعالى صفيرها. 

وتنزوي الأغلبية الجادّة الصامتة المخلصة ، تشعر بصادق الأسى على مآل المؤسسة، وتنبري قلّة منها إلى مواجهةٍ موازينها مختلّة، ونتائجها محسومة، لكنّها تمضي عازمة على فتح الطريق لإعلاء حقّ شاهق، وطمس باطل زاهق لا محالة، هذا الحقّ الذي يتجلّى في ألّا يتسنّم قمم مؤسساتنا إلّا الأمناء الأقوياء الصادقون، ولا يعتلي سدّة اتخاذ القرار فيها إلّا مَن يضع مخافة الله بين عينيه قبل أنْ يضع توقيعه على الأوراق بين يديه. 

الوطن يحتاج إلى أمثال رجاله الماضين الذين أعلَوا بنيانه وثبتوا أركانه، كما يحتاج إلى التصدي للعابثين الذين ينخرون أساساته ويسيئون إلى مؤسساته