تقرير ديوان المحاسبة الصورة الأخرى
جفرا نيوز - المهندس عادل بصبوص
قام ديوان المحاسبة مطلع هذا الأسبوع بنشر تقريره السنوي للعام 2019 ، حيث قامت غالبية المواقع الالكترونية بتنزيل النص الكامل للتقرير، كما قامت هذه المواقع بإعادة نشر العديد من الملاحظات التي وردت في التقرير، والتي تتعلق بمخالفات رأتها هذه المواقع أمثلة واضحة على هدر وتبديد المال العام مثل تخصيص رواتب مرتفعة وامتيازات سخية ومكافآت مجزية لموظفين ومستخدمين في دوائر ومؤسسات وشركات حكومية دون وجود مبررات كافية أو تجاوزاً للتعليمات والأنظمة المرعية، وعمليات شراء للوازم لا لزوم لها، وعمليات توظيف أو استخدام خارج الإجراءات والتعليمات، وأمثلة أخرى قد تكون مقبولة في شركات ومؤسسات خاصة، ولكنها تبدو غريبة ومستهجنة في مؤسسات ودوائر حكومية في بلد يعاني الأمرين من شح الموارد وارتفاع المديونية ومشاكل مالية واقتصادية لا حصر لها، مما أثار غضب واستهجان واستنكار وحتى سخرية المتابعين والناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، وخلف شعورا متزايدا بالخيبة والاحباط وفقدان الأمل في وقت نحن فيه أحوج ما نكون لرفع المعنويات والتلاحم والتعاضد لمواجهة التحديات الهائلة التي تواجه الوطن.
يرى كثيرون أن التقرير يعكس صورة قاتمة لجهاز الحكومة التنفيذي وخاصة قادة الوزارات والمؤسسات العامة الذي يصمون الآذان بشعاراتهم المتعلقة بضبط الإنفاق والحفاظ على المال العام، فيما هم يقدمون أسوء الأمثلة في إدارة الموارد المحدودة وفي تبديد وهدر الموازنات بعيداً عن تحقيق الأهداف والغايات التي تم تعيينهم لتحقيقها .... إذن فالصورة قاتمة جداً كما يرونها .... ولنا أن نتساءل هنا .... هل الصورة كما يعكسها التقرير بهذه القتامة ؟؟؟!!!، ... هل نذهب أبعد من ذلك فنقول .... هل الصورة قاتمة أصلاً ؟؟؟؟
يجب أن لا يغيب عن بالنا جميعاً أن التقرير العتيد لم تعده هيئة أجنبية، ولا منظمة محلية مدعومة خارجياً، وهو ليس مُخرجاً أنتجته المعارضة سواء المحلية منها أم القابعة خلف الحدود، فهو نتاج عمل ومثابرة ديوان المحاسبة الذي هو ذراع من أذرع وأدوات الدولة الأردنية نفسها، من خلاله تمارس الحكومة الرقابة الذاتية على اجراءاتها وخاصة ذات الأثر والانعكاس المالي، وما قيام الديوان بنشر تقرير سنوي على الملأ يتضمن كافة تفاصيل ونتائج عمليات المراقبة والتدقيق إلا تجسيد حي لإبرز سمات الحوكمة الرشيدة، وترجمة عملية تعكس جدية الحكومة في الحفاظ على المال العام ومحاسبة كل من تقوده نفسه الأمارة بالسوء لممارسة العبث والإخلال بالمسؤولية في هذا المجال. إن وجود المخالفات والملاحظات التي وردت في تقرير الديوان أمر طبيعي تماماً ، أما غير الطبيعي وغير المقبول فهو إخفاء هذه المخالفات والتستر عليها، أما نشرها ووضعها تحت الشمس امام الجميع فهي الخطوة الأولى والأساسية لمعالجتها والحيلولة دون تكرارها مستقبلاً.
لقد أثار نشر التقرير بلبلة ولغطاً شديداً وترك آثاراً وانطباعات سلبية لدى الكثيرين كما أسلفنا، والسبب الرئيسي في ذلك يعود إلى عدم القراءة الكاملة والموضوعية لمجمل التقرير، ولإجتزاء مخالفات معينة منه، والتركيز على تفاصيل تعكس للوهلة الأولى أقصى درجات المخالفة والاستهتار بالأنظمة والتعليمات، وتداولها بشكل مكثف في المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، مع عدم ذكر باقي التفاصيل، والتي قد يكون من ضمنها أن المخالفة برمتها قد تمت معالجتها، او أنها قيد المعالجة حالياً، وأن ورودها في التقرير هو من باب التوثيق والشفافية ليس إلا.
لعله من المفيد التذكير مجدداً بأن أهمية دور ديوان المحاسبة الرقابي لا يتمثل فقط بكشف المخالفات ومعالجتها، وإنما في منع مخالفات أشد وأقسى كانت سوف ترتكب لو ان رقابة الديوان غير موجودة أو أنها غير مفعلة، ونحن إذ ندعم دور الديوان واجراءاته بكل قوة، بما في ذلك قيام الديوان بنشر تقاريره السنوية المفصلة، إلا أننا نؤكد أن خلاصة اعمال الديوان وانجازاته ليست بمنأى عن النقد والتقييم، وهي لا تتمتع بحصانة أو قدسية تجنبها ذلك، فكثير من الملاحظات التي ترد في تقاريره السنوية تتعلق بقضايا ذات طابع متخصص أو قضايا تحتمل الاجتهاد أو الاختلاف في التقييم، ولا يمثل رأي الديوان فيها الحقيقة المطلقة، بدليل قيام الحكومة بتحويل العديد من القضايا التي يتعارض فيها رأي الديوان مع رأي الجهة الحكومية المعنية، إلى ديوان الرأي والتشريع للفصل في ذلك.
إن ما يقوم به ديوان المحاسبة من مراقبة وتدقيق هي عملية جدية مثمرة وذات مغزى، وخاصة في ضوء إلتزام الحكومة بمتابعة ملاحظات الديوان من خلال حث الجهات المعنية على وتصويب هذه الملاحظات، وفي تحويل العديد منها للقضاء أو لهيئة النزاهة ومكافحة الفساد، وهنا نؤكد على ضرورة الاستمرار في دعم جهود ديوان المحاسبة، من خلال المتابعة الحثيثة لمعالجة المخالفات التي يكتشفها، ومن خلال رفده بالأجهزة الفنية ذات الكفاءة والفعالية، مع تجنب اعطاء الديوان أو أي من اجهزته الفنية وموظفيه المزيد من الصلاحيات، فما لديه من الصلاحيات حالياً يكفي لقيامه بالمهام المطلوبة، لأن أية صلاحيات اضافية خاصة لمندوبيه في الوزارات والمؤسسات المختلفة، سوف تؤدي إلى التعدي على صلاحيات الجهات المنفذة بحيث يصبح مندوبو الديوان بمرور الوقت شركاء في عملية التنفيذ، مما يفقد عملية المراقبة والتدقيق من مضمونها وهدفها الاساسي.
في الختام لا بد من الإشارة إلى نقطة بالغة الأهمية وردت في التقرير الأخير للديوان تجاهلها المعلقون والمنتقدون عن قصد أو غير قصد، وهي تتمثل في تحقيق انخفاض حقيقي في اعداد المخالفات التي تم اكتشافها عام 2019 مقارنة مع عام 2018 نتيجة تغيير نهج التدقيق وزيادة التنسيق مع الجهات الخاضعة لرقابة الديوان وانتهاج اسلوب الرقابة الوقائية ومتابعة تقارير الديوان من خلال اللجان المشكلة لهذه الغاية من قبل مجلس النواب ورئاسة الوزراء.