ثيمات مبتكرة للرواية في الشمال المترف..!
جفرا نيوز- كتب علاء الدين ابو زينة
يُنسب ضرب الرواية إلى أوروبا بشكل أساسي. وقد دخلت الممارسة الثقافية العربية– مع الشِّعر الحديث- بعد ترجمة كلاسيكيات الرواية الأوروبية أو استيراد تقنياتها على يد الدارسين في أوروبا. ويعتقد على نطاق واسع أن رواية "زينب” لمحمد حسين هيكل، التي نشرت في بدايات العشرينيات من القرن الماضي، كانت أول نتاج عربي يُنسب إلى الرواية بمواصفاتها الحديثة. وسُرعان ما طُبِّعت الرواية في المشهد الإبداعي العربي كأداة تعبيرية كبيرة الإمكانيات. ونشأت أجيال من الروائيين العرب الذين استفادوا من تقنيات الرواية كعربات جمالية لحمل الرؤى والأفكار والتفاعلات التي تمور في مجتمعاتنا. وجرّبت هذه الروايات مع الواقعية والرومانسية، ثم انطلقت نحو ابتكار تقنياتها الخاصة في السرد وحضرت بقوة في المشهد الإبداعي.
لكن الرواية العربية ظلت– موضوعياً- محدّدة بالحركة العامة للمجتمعات وبالمواصفات المحلية للثيمات واللغة والمساحة التعبيرية المتاحة. ولا بد أن يكون التراجع المتواصل عن التقدم النهضوي الذي حققه العالم العربي في أوائل وأواسط القرن العشرين قد ضيّق المساحات التي تتحرك فيها الرواية العربية وحدّ من آفاقها على كل الصعد. وربما تكون المراوحة المطولة في المكان عندما يتعلق الأمر بالأسئلة الوجودية غير المحلولة في حياة العرب قد أوقعت الرواية العربية في فخ الاضطراب والضبابية والاجترار. ويضيف اتساع منطقة المحرمات من كل الأنواع مرة أخرى، ونوعية الشواغل، وشيطنة التجريب إلى تضييق آفاق الرواية.
في المقابل، ما تزال الرواية العالمية نشطة في ارتياد أراضٍ جديدة، مستفيدة من الاستقرار النسبي في الأساسيات ومن قدرة التكيف مع الشواغل البشرية الجديدة. ومع أن الصراع الطبقي والحرب والنضالات الاجتماعية الكبيرة تبقى مادة صالحة للسرد في كل زمان، فإن غياب مثل هذه الثيمات إلى حد كبير في أوروبا يقترح على ما يبدو نوعاً من التحوّل في استجلاب مادة الرواية. وعلى سبيل المثال، يصعب أن يكتب الروائي الاسكندنافي عن الثورة، أو الحب المقموع، أو الاضطهاد السياسي والاعتقال والاحتلال، أو الفقر والكدح، أو الصراع بين الدين والعلمانية– وبقية الشواغل التي ما نزال نصارع معها. وإذا قاربوا هذه الموضوعات، فسوف يحتاجون إلى حشد قدر استثنائي من الابتكار والتقنيات الروائية لجعل نتاجاتهم قابلة للاستهلاك.
لذلك، يكتب الإسكندنافيون الآن عن الطبيعة والبيئة، ويهربون من الراهن الشحيح بالثيمات إلى الأمام باستشراف عوالم ديستوبية مفزعة قادمة إذا استمرت الاتجاهات الحالية للبشرية بلا مراجعة: إذا نفد الماء، أو انقرضت كائنات فاختل توازن العالم وأصبحت البشرية في خطر. وهم يقيمون الصلة المنطقية بين هذه السيناريوهات وبين الحروب، والكيماويات، والدفيئات وبقية الضرائب التي يفرضها الجشع البشري على مصير البشرية كلها.
ويكتب الإسكندنافيون أيضاً عن المهاجرين؛ الذين لم يعودوا ينتقلون بسلاسة ويذوبون في المجتمعات، وإنما الذين يأتون بأعداد كبيرة دفعة واحدة، بمتاعهم القليل وأحمالهم الكبيرة من الموروث الثقافي والسلوكي. ويجد الروائيون الاسكندنافيون مادة في مناقشة التوتر بين الوفاء لقيمة المساعدة وفتح الأذرع، والخوف من مدّ ثقافي مغاير يطالب بمشاركة الحيز، والثروة، والرأي.
وفي التقنية، يجرب الإسكندنافيون مع الكوميتراجيديا، وفي ضروب هجينة من التوثيق والسرد، والتاريخ الطبيعي والسيرة.
ويبتكرون في مقاربة محركات الأحداث العالمية والإنسانية بتطبيع المستبعَد والإدهاش بسعة المخيلة. وفي بعض الأحيان، يستحضرون أجواء الماضي أيضاً لتغليف السرد بالإثارة. ومن الملفت استثمارهم الكبير في قصص الأطفال وروايات اليافعين. وتجد هذه الاستكشافات اهتماماً في المجتمعات المنشغلة عن التجريب الفني بأزماتها، لكنها تحتاج مع ذلك إلى استهلاك الأدب والفن كجزء من روحها. ويحجز الكُتاب الإسكندنافيون بذلك حصة من أكثر الكتب مبيعاً في بقية أوروبا وعبر المحيط.
ثمة عامل موضوعي آخر يساعد في تشجيع الابتكار السردي في ذلك العالم، هو أن الكتابة حرفة مجزية، كوظيفة. ويملك الروائيون هناك ترف التفرغ لأن عملاً ناجحاً يمكن يؤمِّن عيشاً مادياً لائقاً للكاتب. وفي بلادنا يغلب أن يُحسب الروائيون على العاطلين عن العمل. ولا بُدّ أن يكون كساد سلعة الثقافة في بلادنا، وطمع الناشرين، أسباباً تُقنع الروائيين بالكف عن المغامرة وادخار معظم الوقت لمهنة تجلب خبزاً.
مع وجاهة الحديث عن علاقة المعاناة بالإبداع، فإن الإحباط العام كفيل بإحباط السرد وتقيده. لذلك كان آخر تفاعل سردي مهم لنا مع الشمال المسترخي هو "الرد كتابة”، غالباً بسرد علاقة حميمة بين جنوبي أسمر وامرأة شمالية بيضاء.