هل ستشذ جائحة كورونا عن القاعدة؟
جفرا نيوز- كتب د.عاصم منصور
يعتقد العُلماء والمؤرخون على نطاق واسع أن الأوبئة التي مرّت بها البشرية منذُ القدم قد غيرت مسار التاريخ، وساهمت في اعادة صياغة العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وشكلت منعطفات حادة رفعت بعضهم وخفضت آخرين وأعادت تشكيل دول وحضارات ونظم سياسية واقتصادية كما ساهمت في انتشار أديان ومعتقدات واضمحلال أخرى.
فمن طاعون جاستينيان الذي أودى بحياة نصف سكان الامبراطورية الرومانية وقضى على مساعي الامبراطور جاستينيان الأول في توحيد نصفي الامبراطورية، الى طاعون «الموت الأسود» الذي ضرب اوروبا في القرن الرابع عشر وأعاد صياغة العلاقة بين الاقطاعيين والمزارعين في اوروبا وقضى عمليا على نظام القنانة الاقطاعي القديم، حيث اضطر الملاك نظرا لشح الأيدي العاملة التي أودى الوباء بمعظمها الى تقديم تنازلات لصالح الفلاحين والعمال.
كما كان للوباء دور بارز في سيطرة الاوروبيين البيض على القارة الاميركية نتيجة نقل عدوى الحصبة إلى سكانها الأصليين والتي لم تكُن معروفة في تلك القارة من قبل وأودت بحياة حوالي 90 % من السكان مما مهد الطريق للمستوطنين الجدد للسيطرة على هذه القارة وتغيير مسار التاريخ لقرون عديدة.
ولم تشذ انفلونزا العام 1918 والشهيرة بالانفلونزا الاسبانية عن القاعدة ففضلا عن كونها وضعت حجر الأساس لمفهوم الصحة العامة والتغطية الصحية الشاملة بمفهومها العصري فقد ساهمت في التعجيل في نهاية الحرب العالمية الأولى وفي صياغة بعض مُخرجاتها ، وربما حملت في ثناياها بذرة الحرب الثانية.
ولا أظن أن الوباء الذي نعيشه اليوم سيشذ عن القاعدة ، فقد بدأنا نشهد تغييرات واسعة في كل المجالات من خلال التوسع في العمل عن بُعد ، واستحواذ التعليم عن بعد على حصة كبيرة من التعليم، والهزات السياسية والتي كان أولها خسارة الرئيس الأميركي ترامب للانتخابات التي يجمع المحللون على أن تعامله مع الجائحة كان حاسماً في هذه الخسارة ولا أظن أن هذا سيكون خاتمة المطاف فسيلحق بترامب العديد من الزُعماء في ظل حالة السخط العام على قصور الاستجابة الصحية والاقتصادية للوباء.
كما أعادت الجائحة الى الواجهة الجدل القديم المتجدد حول الموازنة بين الحريات الفردية والصحة، حيث وجد البشر أنفسهم بذريعة السيطرة على الوباء مضطرين الى القبول بتقييد حركتهم وبالتعرض لأشكال غير مسبوقة من الرقابة الالكترونية وانتهاك الخصوصية الشخصية وهذا ما يثير مخاوف الكثيرين من استمرار الحكومات في تطبيق هذه السياسات بعد انتهاء الوباء.
لقد وضعت الجائحة الحالية العولمة على المحك فعند أول اختبار حقيقي بدأت الدول بالتراجع والانكماش نحو الدولة الوطنية من خلال التنافس المحموم على الموارد وغلق الحدود في وجه مواطني الدول الأخرى وتبادل الاتهامات حول المسؤولية عن الجائحة ، كما بدأنا نشهد توجها في توطين بعض الصناعات وخطوط الانتاج مخافة أن تلجأ هذه الدول الى ارتهان خطوط امدادها للأجنبي في حالات قادمة مشابهة.
كما وجد دعاة النيوليبرالية الرأسمالية أنفسهم في ورطة عندما اضطروا تحت ضغط الجائحة الى التسليم بالتدخل الحكومي في الاقتصاد والى لجوء الحكومات الى تبني سياسات توفير الحماية الاجتماعية للفئات المتضررة من الجائحة وتوفير تغطية صحية شاملة لبعض الفئات والتدخل في تحديد الأجور وغيرها من السياسات التي كانت تُعد حتى زمن قريب من أدوات الاشتراكية المحرمة.
يعتقد بعض المراقبين أن موجات جديدة من الاحتجاجات والاضطرابات ستجتاح العالم بعد أن يصحو الناس من كابوس الوباء ويبدأوا بتقييم ما حدث ومدى استجابة الحكومات للجائحة، كما يتوقع أن يشهد العالم موجة جديدة من العنصرية وكراهية الآخر ومعاداة المهاجرين.
ستنقضي هذه الجائحة كما انقضت سابقاتها لكن بعض المستجدات التي صاحبتها ونتجت عنها ستبقى معنا الى أن تأتي جائحة أخرى تجلب معها تحديات جديدة.