الحكمة بالشرق تستنزف
جفرا نيوز- كتب محمد يونس العبادي
إن نظرة سريعة على الوثائق العثمانية تشير إلى أن المشرق العربي حظي بأزمانٍ من ثقافة عيش مشترك وقبل أن تتسلل إلى المنطقة يد الغرب، بالإضافة إلى الأفكار التي سعت لتمزيقه.
فالفسيفساء التي تحاول الدوائر الغربية تسويقها عن المنطقة، والشروحات على الوثائق والتغييرات على النصوص التي تحاول خلق انطباع يوحي أن المشرق العربي مقسمٌ إلى طوائف وأديان تسقط أمام تواجد أصحاب الأديان الثلاثة بالمشرق، الذي هو بالأصل منبعها.
وبعض المستشرقين أسسوا مدرسة حاولت تصوير "المشرق" على أنه بعض من "فسيفساء" وكانتوناتٍ لم تتعايش وتتآلف يوماً مع بعضها، مما أسهم بتغذية عوامل ما زالت لليوم فاعلة بتمزيق مجتمعات العيش المشترك.
والحواضر العربية سواء في بغداد أم دمشق أم القاهرة، علاوة على مسيحييها الأصلاء احتضنت حاراتٍ لليهود، أي أن نماذج العيش قدمتها مدن المشرق قبل أن تأتي اليوم الطروحات من الغرب لتقص على مسامعنا شيئاً من أدبياتها.
ومثالاً على ذلك مدينة القدس، التي يحاول "اليمين الأمريكي" سلبها هويتها كمدينةٍ جامعةٍ ألفت عبر مئات السنين المسلم والمسيحي واليهودي.
فوثيقة واحدة، فضلاً عن عشرات الحجج العثمانية، تظهر بجلاٍ كيف تعايش أصحاب الديانات الثلاث في الحاضرة لسنين.
إذ تشير وثيقة كشف عنها المرحوم كامل العسلي ، وتعود لعام 1606 أن عدد غير المسلمين في المدينة من غير المسلمين وصل إلى 154 شخصاً (وهم من دافعي الجزية).
وهذا العدد كبير في حال أدركنا أن عدد سكان المدينة لم يتجاوز الـ 8 الاف ، بينما لم يحتسب في هذه الوثيقة سوى من دفع الجزية غير أطفالهم ونسائهم.
وتقول الوثيقة أن عدد أن عدد دافعي الجزية من المسيحيين حوالي 94 شخصاً مقسمين حسب الطوائف 68 روم ارتوذكس و14 سريان و12 أقباط، وعدد اليهود 60 شخصاً.
هذه واحدة من وثائق تروي التواجد الذي يحاول اليوم اليمين الأمريكي والإسرائيلي تبديله بمشاريع تفريغٍ للمدينة تقدم أنموذجاً مغايراً لما ساد المشرق وحواضره من مئات السنين.
إن العيش المشترك الذي قدمه المشرق وحوضره وإنسانه إرثٍ غنيٍ له أدبياته، وعلينا أن نحاجج هذا التيار اليميني ونشرح للعالم كيف قدمت المجتمعات العربية، التي على معاناتها إلا أن ذاكرتها قوية، قدمت أسلوب الحياة في وقتٍ كانت مناطق عدة بالعالم تشهد حملات تطهير عرقي وديني واثني.
الحكمة بالشرق تستنزف وخطاب العيش المشترك المنتمي لهذه المنطقة أقدر على بناء نقيض طروحات تتسلل في ظرفٍ دقيقٍ من تاريخنا بالمشرق العربي!