خميعة !!؟؟
جفرا نيوز - بقلم الدكتور : ابراهيم العابد العبادي
كلمة او مصطلح خميعة يمر أحياناً مرور الكرام على المتلقي وذلك لأمرين، اولهما عدم الادراك او الانتباه او التركيز، والثاني عدم الفهم او الوضوح بالمقصود، وبالتالي عدم الرغبة بالاستفسار خوفاً من الظهور امام المتحدث بنوع من الجهل او ضعف المعرفة. الا أن للمصطلح معاني كثيرة وعميقة تتباين ما بين اصل المعنى في معاجم اللغة من جهة، واستخدامه في الحياة واللهجات العامية في أكثر من مجتمع او اقليم. وفي هذا المقال سنتحدث عن (خميعة) ضمن بعدين، مختلفين ومرتبطين في آن واحد.
بداية خميعة لغة تعود الى الجذر (خمع) ولها معاني كثيرة، منها مسمى للضبع، والذئب واللص، كما تصف حالة المشي بظلْع...كما هناك في التاريخ العربي بنو خماعة وهم بطن من بطون العرب، ويظهر ذلك في قول الشاعر جهنّام هاجياً اعشى قيس: ...أبوكَ رَضيعٌ اللؤم قيسُ بنُ جَنْدَلٍ*وخالُك عبدٌ من خُماعةَ راضعُ...، الا أن للمصطلح جوانب اخرى متعارف عليها ضمن قبائل بعض دول ومجتمعات الاقليم.. حيث تعني نوع من الطعام او الاكلة الشعبية وهو الخبز المنقوع او المفتوت بالحليب الساخن مضاف اليه السمن البلدي والسكر احيانا...ويتم تناوله بشكل أساسي كوجبة إفطار...كما كانت منشرة في الكثير من البوادي والارياف الاردنية.. ولمكونها الرئيسي الخبز مسميات عديدة في الاردن... منها العربود” أو "رغيف الراعي"، أو خبز المَلّة... لأنه يمل أي يوضع في الجمر، ثم ينفّض من بقايا الرماد.. وفي شرق المملكة يسمى المدحوس” وتعني دحسه (اي وضعه) بالنار كذلك.. كما في معان يسمى "العويص” لأنه يعجين بلا خميرة.. وفي المناطق الحضرية يسمى "قرص النار” وفي الكرك يسمى "خبز الريغة...وهي وجبة دسمة شديدة التأثير..... وقد يكون سبب التسمية يعود لتأثيرها اذ تُشعر الانسان بالخمول والثقل.. وبالتالي الشعور بالذهول.... أو لشدة تجانس مكوناتها وعدم القدرة على فصلها ...
من ناحية أخرى وفي المجتمع الاردني والفلسطيني على حد سواء...يستخدم المصطلح للدلالة على عدة أمور ترتبط بالحدث او الحالة التي تصف واقع او سلوك معين...فمثلاً...يقال فلان خميعة... وتمثل وصف لشخص تعرض بشكل غير متوقع للضرب او الاهانة او الترهيب او التنمر من شخص أصغر منه او أقل منه حجماً او مكانة .. كذلك لوصف شخص معين بالسذاجة وضعف الشخصية ...كما يستخدم المصطلح للدلالة على صفع او ضرب اخر بكف.... فيقال خمعته او خمعه كف دّوره دوّر... واحد خمعته كف على نيعه (الخد- الوجه) لوقته لوق...كذلك القول دخل فلان وخمع الباب خمع...دلالة على السلوك بغضب عند اقفال باب البيت او السيارة...او خمعه بالأرض...اي ضرب الشيء بالأرض بقوة وعنف دلالة على عدم الرضا...وحتى في محارب العلم والمعرفة يستخدم الوصف...اذ يقال خمعنا محاضرة او بيان...للدلالة على صعوبة الطرح وعدم فهم المعنى او شدة الموضوع...
الجديد في الأمر ومن واقع الاسقاط على المعاني والدلالات اعلاه، نحن نعيش في حالة خميعة شديدة التأثير...فمنذ عقود وبُعّيد تشكيل كل حكومة ترتفع اصوات الغالبية الصامتة تطالب برحيلها نظراً لانكشاف ضعفها ووهنها السياسي والاقتصادي والاجتماعي...وما يترتب على وجودها من الاثار السلبية المترتبة على الوطن والمواطن ...فيما تتبنى الصالونات السياسية من خلف ستار ذات المطلب لتحقيق مآربها الخاصة ولفت النظر الى الذات والعودة الى كرسي قيادة الدفة.. وليس الدفع والحّيد عن الديار والاوطان وشتان بين الثرى والثرية...وليس امتثالاً لقول الشاعر احمد محرم... يَحيدُ عَنِ الكريهةِ كلُّ وانٍ ....وتَمنعهُ الحميَّةُ أن يحيدا....
والسؤال الذي يطرحه الكثيرون من سياسيين ومفكرين وناشطين واعلاميين...وغيرهم، وبشكل متكرر... عند حل وتشكيل الحكومة منذ قيام الاردن...وحتى الساعة.. ودون اجابة شافية.. هل تواجه الحكومات مشكلة او تنصاع لمصدر او مصادر اتخاذ القرار الفعلي او الحقيقي ولا تملك القدرة على مواجهته؟...وان حدث ذلك فأين مفهوم الولاية العامة...وأين بنود الدستور.....؟.. وهل بات المجتمع الاردني عاجز عن انتاج حكومة تعمل لمصلحة الوطن والمواطن...وما هو الخليط المتجانس الذي يلزم لحل هذه المعضلة...في ظل وجود مكونات تمت تجربتها مراراً وتكراراً ضمت وشملت ممثلين وأعلام من (احزاب، واتجاهات عشائرية، وتركيب ديموغرافي، ومحاصصة اقليمية، وتكنوقراط، وصلعان الديجيتال ...الخ).
عند إمعان النظر، في آلية صنع واتخاذ غالبية القرارات المتخذة، تشعر بغياب تام للنهج المؤسسي، وتجد سيطرة لمفهوم العشوائية والتخبط والفزعات.. وأن القرارات يكتنفها نوع من عدم النضج والبعد عن الشمولية وقصر الرؤية وغياب البعد الاستراتيجي لعمل الحكومة.. ولتطلعات الوطن والمواطن.. ولست في هذا المقام ولا المقال للتحدث عن جهة بعينها نحو تفاصيل خطوات اتخاذ القرار.. القائمة على جمع البيانات والمعلومات، وتدارسها بموضوعية ومنطقية عقلانية لتحديد بدائل صنع القرار، ومن ثم اتخاذ القرار...كما لن اغوص او أشير الى أساليب اتخاذ القرار التي يعرفها ويتقنها نظرياً الغالبية العظمى ان لم يكن كافة المسؤولين...وما يرتبط بها من معطيات ومرتكزات تتمثل بالخبرات والتردد في اتخاذ القرار، ودقة القرار وبدائله.. الخ.
لقد كشفت جائحة كورونا وقبلها العديد من الازمات والمعوقات مثل (التعاطي مع المديونية وارتفاعها غير المسبوق، والبطالة، والفقر، والحماية الاجتماعية، وغرق وسط البلد، وحادثة البحر الميت، والباص السريع البطيء، والطريق الصحراوي، وطريق السلط، والتفجيرات، والدخان، وقضايا الفساد المالي والاداري، وملف نقابة المعلمين، واستثمارات الضمان...الخ ) عن فشل المسكنات والعقاقير الحكومية في علاج مشكلة تضارب القرارات وتشابك وتداخل الاختصاصات، وصبغة ضعف الجهاز الإداري في القطاعين العام والخاص على حد سواء ، حتى طالت مشروعات استثمارية كبري بشكل بات يهدد مناخ الاستثمار العام.
من هنا اصبحنا نعيش حالة الخميعة... فقد اختلط الحابل بالنابل وعدم القدرة على التمييز في عملية صنع القرار وخضوعه لمعايير التقييم، أو تأثره بمدى التحيز الشخصي والمعرفي لمتخذ القرار....حقيقة لم نعُد مواطنين ومسؤولين قادرين على تحديد اتجاه ومؤشر البوصلة.. وماذا سيحدث اليوم أو بعد ساعة ...تعليم عن بعد او بالمدارس.. اجراء انتخابات او تأجيل.. الخ ...لكن جُل ما يمكن تأكيده اننا في الاردن أضفنا مفهوم جديد لمصطلح خميعة.. سيتم توظيفه للتعبير عن حالة التخبط التي نعيشها بكل ما يحمله المصطلح من معاني ومفاهيم سبق الاشارة اليها...وبالتالي يصبح لدينا خميعة مستدامة....ومنها يشتق خميعة انتخابية، واقتصادية، وتعليمية...بقي أن نسجل المصطلح لدى الجهات المعنية لحماية حقوق الملكية من جانب ومن ثم دخول غينيس للخميعة القياسية....حمى الله الوطن...حمى الله الاردن بلد الرباط والمرابطين.