الملك .. فرصتنا الاخيرة

جفرا نيوز - محمد البدارين في كتابه (فرصتنا الاخيرة) يتحدث جلالة الملك عبدالله الثاني عن مشكلات الوضع الاقتصادي في البلاد عند اعتلائه العرش عام 1999، ولمواجهة هذا الوضع يقول جلالته(جمعت فريقا من المستشارين الاقتصاديين ذوي الموهبة والكفاءة العاليتين،من بينهم باسم عوض الله حامل درجة الدكتوراة في الاقتصاد من كلية لندن للاقتصاد ومصرفي سابق كان يعمل في مجال المصارف الاستثمارية،وسمير الرفاعي خريج هارفرد ونجل السياسي المخضرم زيد الرفاعي مستشار والدي الموثوق والمقرب، وطلبت من الفريق ان يأتيني باقتراحات وافكار جريئة ذات نزعة تحديثية لتحفيز الاقتصاد الاردني ودفعه على مسار النمو والنهوض من كبوته…)

 

هذا هو بالفعل الفريق الذي قاد المرحلة ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب بل على معظم الاصعدة، وسنضيف لهذه الاسماء اسماء اخرى من بينها خريج اخر من لندن كان عضوا مهما في الفريق هو محمد الذهبي ،انهم بالفعل اصحاب  درجات علمية من جامعات مرموقة في بلدان عريقة غير مشكوك بسمعتها الاكاديمية ولا برسوخ القيم الحضارية الانسانية في مجتمعاتها التي تغلغلت في اعماقها قيم الحداثة حتى بات يجري الحديث هناك عن مرحلة ما بعد الحداثة.

 

وقد كنا نعتقد فعلا، بأن شخصا متخرجا بشهادة عالية من جامعة امريكية او بريطانية مرموقة يعتبر كفاءة حقيقية تصلح لشغل وظيفة مهمة او حساسة، فمثل هذه الدرجات العلمية من مثل هذه الجامعات توحي بان صاحبها شخص متميز، وتقود للاعتقاد بأن هذا الشخص بحكم دراسته وعيشه في بلد متقدم ومتحضر لا بد انه قد تعايش مع ثقافة الناس الذين تعلّم عندهم وتأثر بقيمهم ونظم حياتهم وانماط سلوكهم ، وانه لا بد فهم او لاحظ  شكل العلاقات القائمة بين الافراد وعلاقاتهم بمؤسساتهم وكيفية فهمهم لمشاكلهم وكيفية التعامل معها واتخاذ القرارات حيالها.

 

وكان من الطبيعي ان نتوقع من مثل هؤلاء المتخرجين العائدين الى بلدانهم ان يكونوا متأثرين بثقافة الحداثة ، وما تنتجه مدارسها وجامعاتها ومجتمعاتها من ابداعات ، هذه الحداثة التي ليس لها اي معنى في لندن وباريس وفرانكفورت ونيويورك،الا اذا استندت الى مبادىء التفكير العلمي والقيم الانسانية النبيلة، فالتفكير العلمي هو اصل الحداثة ونزعتها ، وهو الشرط الاساسي  لكل عملياتها  وابداعاتها،  وهذا التفكير بطبيعته هو تفكير نقدي موضوعي يفحص الظواهر بدقة ويمحصّها تمحيصا وفق منهج الحداثة نفسه الممتد منذ لحظة ديكارت وحتى الان .

 

اما القيم الانسانية النبيلة التي تعلي من شأنها المجتمعات الحديثة المتحضرة التي تخرّج من جامعاتها اعضاء فريقنا ، فهي ذات القيم التي اسس لها وكرّسها جون لوك وفولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو وستيوارت ميل، وغيرهم من المفكرين الذين دشّنوا عصر النور ، انها قيم الحرية والكرامة والنزاهة والعدل، وهي قيم تدين التمييز بين الناس بسبب ملامحهم او مذاهبهم واعتقاداتهم ، وهي ترفض  التحيز والتعصب بكل انواعه ودوافعه مخّفيا كان او ظاهرا.

 

هذه هي الحداثة في جوهرها وفي ابهى تطبيقاتها المحروسة بقوة القانون والاعراف وتقاليد الجامعات المرموقة والصوت الحر لمجتمعاتها، وهذه هي حقيقة الحضارة الانسانية الحديثة وقيمها المترسخة في ذلك الجزء المتقدم من العالم ،انها الحضارة التي سنقف امامها مبهورين او رافضين منذ مطلع القرن الماضي، بعضنا يحاول ان يفهمها وينتسب اليها، وبعضنا سيحاول رفضها، بينما سيختصر منا بعض ثالث وقته وجهده بادعاء الحداثة عبراستعارة شيء من شكلانياتها ومقتنياتها الشخصية او بما يمكن تسميته الحداثة بالايهام.

 

نعم لقد كنا نعتقد  وعلى نطاق واسع ،انه مع تزايد اعداد الخريجين الاردنيين من الدول المتقدمة الذين هم في معظمهم من اخواننا الاوفر حظا الذين كانوا قد تلقوا تعليمهم المدرسي اصلا في مدارس لا تشبه مدارسنا في البوادي والارياف والمخيمات، كنا نعتقد انهم بعد عشرين سنة من اسناد المناصب والمراكز المهمة لهم في القطاعين العام والخاص او الجمع بينهما ، بأنهم سيقودوننا الى افاق جديدة نحقق فيها اهدافنا وطموحاتنا في بناء مجتمع العدالة والحرية والكفاية والتقدم، ونتخلص من مشكلاتنا المزمنة.

 

 

لكننا بعد التجربة ، سنصاب للأسف بخيبات امل متكررة فالنتائج لم تكن ابدا سارة على اكثر من صعيد، حيث ستثبت الحداثة الادعائية فشلها حتى في تفسير فشلها عندما ستحمّله للاخرين ، فعقل الحداثة الحقيقي حين يفشل في تحقيق الهدف يعترف بالفشل ويتحمل المسؤولية ويقبل المحاسبة ولايلقي بالمسؤولية على الابرياء، لكن هذه المدرسة الحداثية الادعائية ستصعقنا بفشلها وستصعقنا اكثر في تفسيرها لفشلها، تماما كما صعقتنا قبلها المدرسة الاخرى التي تسمى محافظة، فالفريقان المدعيان لحبنا والانتماء الينا والاخلاص لوطننا ومليكنا لا نرى اليوم من اثارهم وبصماتهم الا ما نرى من عجز وديون وقصور، وقصور ستتلاشى امام حقيقتها الماثلة امام عيوننا كل دعاوي وادعاءات المدرستين اللبيرالية والمحافظة سواء بسواء.

 

وسنكتشف ميدانيا، ان شهادة هارفرد وكمبيرج والسوربون هي مثل شهادة عمان وبيروت والقاهرة،ليست مؤهلا كافيا لوحدها لشغل المنصب العام وانها ليست دليلا كافيا يثبت بأن صاحبها شخص متميز ويمتلك رؤية حديثة لا بل انها قد تكون مؤشرا خادعا يجعلنا نعتقد ان صاحبها يلتزم بقواعد التفكير العلمي ويؤمن بقيم الحداثة بينما هو في الحقيقة شخص رجعي  يرتدي ملابس الحداثة ويستعمل بعض مقتنياتها الشكلانية.

 

ان الحضارة الغربية السائدة في العالم اليوم هي حضارة الانسان الحديث، وهي  الحداثة التي بخدعة الانتساب اليها والتتلمذ في جامعاتها سيقودنا ذلك الفريق الذي سنرى بفضله ما رأينا من علنية غير مسبوقة في توريث المناصب العامة وتوزيعها على الاصحاب والاقارب والمحاسيب ، وهدرا لا رحمة فيه ولا شفقة للمال العام والموارد العمومية، واستهتارا علنيا لم يسبق له مثيل بكل المعايير الصحيحة في ادارة مؤسسات الدولة، وتلاعبا متعمدا بمصائر وحقوق الناس، حتى وصلنا الى ازمتنا هذه التي كنا قد عرفنا ازمة مماثلة لها على ايدي نخبة سابقة قبل ما يزيد على عشرين عاما، وستكشف لنا هذه الازمة الجديدة ان الحداثة المفعمة بكل القيم الانسانية النبيلة متناقضة تماما مع كل ما رأيناه من افعال ، وستعلن الحداثة الحقيقية براءتها من ازمات فريقنا وستدين فشله الذريع ، وستدعوه لتقديم كشف حساب حقيقي على الطريقة الحديثة نفسها التي لا تتعامل بغير الحقيقة وترفض تكييفها حسب الروتين الدفاعي المبرمج اوحسب المستحضرات المعدّة لاغراض الخلط والابهار والتضليل.

 

لقد كنا نتأمل فعلا  ونتمنى ان نرى اثرا حقيقيا وجديرا بالذكر لهؤلاء المتنورين ذوي النزعة التحديثية ،الذين فتحت لهم كل الابواب ومنحوا الترقيات الاستثنائية المتسارعة، وحازوا على كل اشكال الدعم والتمكين لينفذوا برامجهم التحديثية، فلم تكن برامجهم هذه الا محض تصفيات للاقران والمنافسين واقصاء لكل الكفاءات الوطنية الحقيقية في مؤسسات الدولة، وشحن للاجواء العامة بالنزاعات وتحويل البلاد الى  حلبة مصارعة على النفوذ ، بشكل ادى في النهاية لزعزعة الثقة العامة بالدولة نفسها.

 

ان بلدنا اليوم يواجه ازمته الاصعب التي لم تكن الا نتيجة تقصير نخبته الحاكمة وغرورها وتجوفها ونزعاتها الموغلة في الانتماء للذات وتضخيمها ورفض الاخر واستبعاده واستعدائه، وانعدام صلتها بواقع المجتمع وقضاياه ، هذه النخبة التي ظلت تعتاش طوال الوقت على اتهامنا، وتبرر فشلها بمقاومتنا نحن للتغيير وضعف استيعابنا،اوعدم اقبال اولادنا على العمل الدونّي كعبيد بأسم جديد بدون ان تقدم اولادها كقدوة لاولادنا في هذا الحقل الجديد، او تمنعهم من الاستعراض على اولادنا بالسيارات العجيبة ذات الارقام المتسلسلة، وهي تعفي نفسها من المسؤولية متفاخرة عبر السنين باننا الاقل سوءا  في محيط  سيء او الاقل اضطرابا في اقليم مضطرب ، بينما كنا قادرين لو خلصت النيّة وصحّ العزم ان نتجاوز هذه المقارنة البائسة مع هذا المحيط الذي يدفع اليوم ثمن فشل نخبه بالجملة.