" التراث : هل هو عبءٌ أم ملاذ، مصدر تهديد للمجتمع أم ركن امان له؟"
جفرا نيوز - قبل الولوج إلى باطن المسألة،لا بُدّ أن نضع مفهوماً محدّداً للتراث ، وهنا نقول أن التراث هو الموروث الفكري والثقافي الذي لا يزال حاضراً في حياة الناس والمجتمعات،وله تأثير على مواقفهم ومسلكياتهم،بمعنى آخر هو الذي بنى نماذجاً سياسية واجتماعية،لا تزال تحظى بالإعجاب حتى بعد انقضاء زمنها،أو بمعنى آخر لا تزال تمتلك قوة استمرارية،وتغري باستلهامها وإحيائها.
لذا فإن الأحزاب السياسية،وجدت قوة وحيوية في هذا التراث فتبنته وأقامت دعوتها على محاولة بعثه.
وهذا بالذات ما يزعج السلطات السياسية في هذا التراث،أنه منافس قوي يمتلك الحيوية الكافية ويعبيء الجماهير.
ومن هنا يتخذ الصدام مع هذه السلطة السياسية صورة دموية،لأنها لا تستطيع إسكات الصوت،فتقتل مصدره.
وبموازات القمع الدموي توظف السلطات القمعية موظفين على الجبهة الفكرية تلبسهم عباءات المفكرين،وهؤلاء يعملون وفق نظرية هنري كيسنحر وبرنار ليفي،وهي ما يسمى بنظرية تجفيف المنابع بمعنى نسف القناعة بالمصادر الفكرية،أي استهداف التراث بنصوصه و مقولاته،وهذا ما بدا واضحاً في المناظرة الفكرية بين شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب ورئيس جامعة القاهرة الدكتور عثمان الخشت خلال انعقاد ندوة تحت عنوان: تجديد الفكر الديني،الخشت ليس بدعاً من الأمر فقبله كان الدكتور حسن حنفي رئيس جامعة القاهرة في العهد الناصري وقبله أصدر صادق جلال العظم كتابه المعروف" نقد الفكر الديني "في سوريا،ودخل على الخط شخصيات مثل محمد شحرور وعدنان ابراهيم،ومع الفارق فرج فودة و نصر ابو زيد تحت عنوان التفكير في زمن التكفير،وظهور التنظيمات الإرهابية فتح الباب على مصراعيه لاستمرار هذا الجدل،ولكن الدكتور الطيب وضع النقاط على الحروف بقوله: أن الدين يختطفه السياسيون ويجيرونه لصالحهم.
الشواهد على هذا الإختطاف قائمة بما حدث ويحدث في السعودية ما بين دعوات الجهاد في أفغانستان وسوريا،إلى دعوة كيم كارديشان في العهد الجديد،وكلا الدعوتين توظيف واضح للدين عند الحاجة ونقض له عند الحاجة أيضاً،وفي الوقت الذي توجه فيه تهمة الإرهاب لحركة حماس التي تقاتل محتلا غاشماً تحت راية الدين.
ومن المفارقات أن محاربي التراث هؤلاء هم انفسهم الذين يجندونه لهدم الديمقراطية باعتبارها خروجاً على الدين وفي الوقت الذي يشنون فيه حرباً على التراث يجندون الأحزاب السلفية وعباد الحكام من الجامية والمدخلية في هذه الحرب،وطبعاً يتغافلون عن العلماء التراثيين الذين تحدوا ظلم السلطات في ظل الخلافة القائمة كأحمد بن حنبل وأبو حنيفة وسعيد بن المسيب،بينما يسجدون هم بين يدي حكام لا يمكن مقارنتهم بحكم الخلفاء ملوكاً كانوا أم أمراء غاشمين كانوا أو عادلين، على امتداد تاريخ الدولة الإسلامية،فهؤلاء كانوا أسوداً على الأعداء،ولم يفرطوا بحياض الأمة وأوطانها وأراضيها.
التراث لا تزال ركائزه قائمة في المجتمع حتى في ظل أكثر السلطات عداء للدين،ممثلة في الأوقاف والمحاكم الشرعية ومراكز تحفيظ القرآن،وهذه أصبحت هدفاً أولاً لمحاربي التراث،فاستهدفوا قانون الأحوال الشخصية ودخلوا في اتفاقيات مثل سيداو تحت عنوان تحرير أو تمكين المرأة،وحولوا الملكيات الوقفية لملكية الدولة وأغلقوا مراكز تحفيظ القرآن،بذريعة محاربة الإرهاب.
وإذن فالمسألة برمتها هي أكثر من اختطاف سياسي للدين كما قال الطيب،بل هي محاولة لإطفاء الروح الثورية التي يشعلها التراث في النفوس،ولعل أبرز مثل تاريخي هي فتوى العز بن عبد السلام ببيع سلاطين المماليك وتجريدهم من الشرعية إذا لم يعلنوا الجهاد ضد الاحتلال المغولي.
ومن هنا أيضاً تصبح الفتوى المستندة إلى التراث هدفاً بدورها لأنها موقف وتعبئة ورسالة للجماهير وهذا أخطر ما فيها: جماهيريتها،وهكذا صفق الجمهور للطيب وأشاح بوجهه عن الخشت.
فالهدف واضح إذن هو الخنوع أمام الغزو،وهذا يفسر فرح نتنياهو بأصدقائه من الحكام العرب المطبعين مع إسرائيل.
فالحرب على التراث تصب مباشرة في نزع شوكة الجهاد وإطفاء روح المقاومة والاستسلام غير المشروط للغزاة على الجبهتين العسكرية والفكرية بما فيها إشاعة الإنحلال في المجتمع والذي يوهن العزائم ويحطم المنظومة الإجتماعية،
فدعوى تجديد الفكر الديني تندرج كلها في هذا المسار وهذا يفسر زعم يوسف زيدان الساذج بأن المسجد الأقصى في الطائف وليس في القدس،فهدم القدسية هو الهدف المختبيء تحت عنوان التجديد،والأمة التي لا مقدسات لديها هي بالطبع أمة واهنة خائرة لن تحارب عدوا ولن تثور ضد محتل والتراث هو الذي يفتيكم فاستفتوه.
يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون.
نزار حسين راشد