نواقض الدولة المدنية.. أوراق ملك
جفرا نيوز - خلدون مدالله المجالي
ثمّة مفاهيم سياسية متعددة تحكم نظرية الدولة وتكويناتها بدءاً باركانها ومروراً بالعقد الاجتماعي وجميعها خارج نطاق حديثي هنا بالتحديد، حيث ان ممارسة التنظير السياسي اصبح حكراً للبعض وله وكلاء حصريين في الدفاع والشرح والتبرير عبر ذوي الكراسي ممن يُعاد انتاجهم من جديد وتدويرهم في مواقع المسؤولية لحين وصولهم لسن ( اليأس السياسي) فيتم اعادة تصديرهم مرةً أخرى للمشهد الصحفي والاعلامي بندوات ولقاءات وبرامج للحديث فقط عن ما كان مع العجز المزمن عن تقديمهم لتشخيص دقيق وشجاع للحالة التي نعيشها وخصاء ذهني لما يبدو في الافق السياسي.
الملك وعبر اكثر من لقاء مع النخب – مع تحفظي على مصطلح النخب ومن يزكيهم للقاء- أشار الى ضرورة سماع الحقيقة وطرح الحلول، كنّا نتمنى دوماً بتلك اللقاءات ان يخرج قامة وطنية محسوبة على الضمير العام ولو لمرة واحدة ويقدم تشخيص صريح للمرحلة مع قوة في الحلول وأمانة في ايصال الصوت ( وما يرش عالموت سكر) ولكن لا تندهي مافي حدا!!، فتلك اللقاءات المبرمجة توقيتاً ووجوهاً وموضوعاً اصبحت بالضرورة منزوعة الدسم الوطني وتُقدّم المسكنات الرخيصة لحالة حرجة تتطلب تدخّل جراحي في استئصال الداء وذلك بفعل الطريقة والنوعية التي يتم فيها اختيار تلك النخب التي لا تمثل الا مصالحها وتحركها شهوة الظهور والرجوع من جديد لكرسي المسؤولية.
وكما ان لأي دولة اركان_ فضّلت عدم التطرق اليها في بداية طرحي_ بالمقابل لها (نواقض) حسب المفهوم الطبيعي والفلسفي ايضاً سأتناول أهمها حسب وجهة نظري وتتعلق بالثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة على كافة مستوياتها، فحالة الشارع الاردني التي تتراوح بين السخط العام والاحباط ونقص الشعور الوطني وانعدام الثقة باصحاب القرار بالاضافة لاهدار السلطة لقيمتنا كمواطنين اصبحت تتسيّد موقف الشارع ونبض الاحداث، وهذا ما لا يريد اصحاب النُخب والقرار ايصاله للملك قصداً، وللأمانة وبعيداً عن التجميل والتلطيف فان تلك الظاهرة لها ما يبررها دوماً، فصاحب القرار اما ان يكون مسؤول يتبع لحكومة جباية تترصّد لقمة المواطن او نائب جرى تقزيم دوره وحضوره وحصر وظيفته بالخدمات بعيداً عن الرقابة والتشريع، او عين جرى العمل لاعتباره اكسسوارات في العمل البرلماني دون ان يقوم بدوره المعهود بالرقابة_ علماً بان الدستور لا يمنع_ ، وقد يكون رئيس حكومة فارغ المضمون والرصيد الشعبي بلا ولاية عامة أصلاً وعبارة عن حارس مرمى، وقد يكون حزب سياسي جرى تفريخه بلا جمهور ورسالة، او مؤسسات مجتمع مدني تتلقى تعليماتها بالألو.
الثقة بين المواطن والسلطة وهي الركن الرابع للدولة برأيي هي ما يميز كثير من المجتمعات غير العربية تحديداً، حيث يؤدي توافرها الى خلق حالة الرضى العام والصبر على ظروف الدولة وأزماتها وبناء مستقبل الدول، ففيها الحق يقابله الواجب والضريبة مقابل الخدمة والحزب مقابل تداول السلطة والنقابة مقابل منع الدولة من التغول على حقوق العمال، فيها سيادة القانون الحقيقية وفيها ايضاً صوت الشعب مسموع عبر النائب الحر، الثقة هناك وليدة الدولة المدنية ذات التداول السلمي للسلطة بغير توريث وتدوير للوجوه، والثقة هناك تورث الحياة الكريمة وتكافؤ الفرص بين ابناء الوطن بلا واسطة او اقصاء وتهميش لمنطقة دون الاخرى، المدنية تعني بالضرورة هيبة الدولة حين تكافح الفساد بضراوة وهي نتاج منطقي للاصلاح السياسي الحقيقي وليس التجميلي، فيها رئيس وزراء مسؤول صاحب ولاية كاملة ترتبط سلطته بالمساءلة والمحاكمة الشعبية، وفيها صحافة حرة_بغير تدخلات وشراء ذمم_ كسلطة رابعة، كل ما ذكرته مهم ولكن الأهم ان جميع ذلك لا يوجد لدينا!!.
وكمثال واقعي على معاناتنا من شعور فقدان الوزن والقيمة داخل الوطن نذكر ان اللقاءات التي اجرتها هذه الحكومة في كافة محافظات الوطن لاستمزاج الرأي بقانون الضريبة_ الذي كان سبباً في اقالة الحكومة السابقة_ وما قوبلت به من حالة السخط العام والرفض العريض من كافة المواطنين ولا استثني احداً كان نتيجته ان تم اقرار القانون بكل جرأة عبر ادوات السلطة التشريعية اتباعاً لقاعدة ( دعهم يقولوا ما يشاؤون ونحن نفعل ما نريد) في دولة تدّعي التمديُن والمؤسسية!!
لم يكن ما ذكرت الحالة الوحيدة التي عززت حالة انعدام الثقة لدينا بالسلطة وبوزننا وتأثيرنا وقيمتنا داخل وطننا فهناك العديد من الحالات والامثلة التي تقارفها السلطة ومؤسسات الدولة للاجهاز على شعور الأمل الوطني لدينا وقدرتنا على خلق التغيير الايجابي والسلمي كسياسة تدوير الوجوه في المناصب وتوريث المغانم للابناء والاستثناءات الفاحشة في التعيينات والمزايا والافلات من العقاب للمسؤول المُقصّر وحصر وظيفة المواطن بالايرادات الضريبية، اما عجز الموازنة وهو الناتج الطبيعي لعجز اصحاب القرار عن ترشيد النفقات ومكافحة الفساد واسترداد الاموال العامة المنهوبة يقف هو الآخر وراء حالة التذمر الواسعة، فالمال العام مال الشعب وملكه ومنه وله وبمقابل ذلك لا نرى تحرك جاد لضبطه والحفاظ عليه ولا نلمس مكافحة حقيقية للفساد تشفي صدور المواطنين، فكل ذلك على سبيل المثال وليس الحصر ولا يريد اصحاب القرار ايصاله للملك ايضاً.
ان كان بناء وتركيب الدولة يعتمد على اركانه الثلاثة: الارض، الشعب، والسلطة، فان الثقة بين المواطن والسلطة السياسية تُشكّل الروح الحقيقية للدولة وبغيرها لا مجال للاعتداد أصلاً بديمومة أية دولة وقدرتها على مجابهة التحديات، وهي ايضاً المعيار الحساس والمدخل الخبيث لاصحاب الاجندات الخارجية من دول وجماعات تتربص باستقرار اية دولة فتجد في الاستثمار في حالة السخط العام لدى اي شعب مدخلاً فعالاً لتنفيذ ما تصبو اليه.
خذ ما جرى في تركيا خير مثال، من خروج ملايين المواطنين للدفاع عن الشرعية وعن انجازاتهم السياسية والاقتصادية ودفاعهم عن السلطة المولودة شرعياً بصناديق الانتخاب في وجه ديكتاتورية العسكر حين حاولو ارجاعها للمربع الأول، ما الذي دفع بمواطنين للنوم تحت المجنزرات لمنعها من التقدم سوى شعور الثقة بدولتهم، ما الذي جعل المواطنين يعتبروا ان افشال الانقلاب واجب وطني مقدس في حين استقبلت الجماهير العربية انقلابيي حلف الناتو بالورود أملاً في الخلاص ويقيناً منهم ان ما يمكن ان يحدث لاحقاً لن يكون باسوأ مما عايشوه في ظل مؤسسات دولهم المتهالكة فساداً!!.
الورقة النقاشية للملك والتي تم طرحها منذ ازيد من عامين وتطرقت للدولة المدنية ذات سيادة القانون ما زالت الاحداث تستحضرها، فجميع ما نعانيه انما بسبب غياب روح الدولة المدنية مع ابقاء هيكلها الشكلي خاصةً فيما يتعلق بشعور الثقة الغائبة فينا التي اشرت اليها والاصلاح السياسي الغائب في الواقع والحاضر شكلياً بلا معنى.