المملكة الرابعة .. أين أصبنا وأين تعثرنا ؟
جفرا نيوز - شحاده أبو بقر العبادي
نتحدث جميعنا, حكومات وسلطات رسمية ومؤسسات أهلية ونخبا , عن ضرورات الإصلاح الشامل سياسيا إقتصاديا وإجتماعيا , ونسهوا جميعنا تقريبا , عن حقيقة أن الإصلاح السياسي تحديدا , هو البوابة والمدخل نحو كل إصلاح آخر , وبدونه يغدو حديثنا مجرد عصف ذهني وتنظير يصيب ويخطيء , لا أكثر ولا أقل .
ليس سرا أن مملكتنا الرابعة بدأت عهدها بتوجه شامل نحو الإصلاح الإقتصادي كمشروع وطني كبير , فمنذ الأيام الأولى لتولي جلالة الملك عبدالله الثاني عرش المملكة , كان واضحا أن هم جلالته الأول والأكبر, ينصب على تحسين مستوى عيش الناس وإحداث نقلة نوعية كبرى في التطور الإقتصادي الذي يكفل تحقيق هذا الهدف المهم جدا . ومن يستحضر البدايات يلحظ كم كان جلالة الملك مهتما في تصريحاته وتوجيهاته بهذا الشأن الحيوي والأساسي والمهم جدا .
من أجل ذلك , وبناء على نصائح وإستشارات المختصين إقتصاديا , عهد إلى هؤلاء المتخصصين بوضع الخطة الكبرى وعنوانها التحول الإقتصادي نحو إشراك القطاع الخاص في إدارة دفة العمل العام , وخروج الحكومات وعلى نحو كبير من سوق النشاط الإقتصادي , وإنتهاج مبدأ التخاصية كعلاج فاعل للتباطؤ الواضح في النمو الإقتصادي , ومواجهة مشكلة البطالة التي تنتج فقرا, والذي بدوره ينتج مشكلات إجتماعية كبرى .
لا يختلف إثنان على أن التخاصية أو الخصخصة , هي حقا علاج فاعل للمرض الإقتصادي في أي مجتمع , لكنها وككل علاج , تؤخذ أو يجرى تناولها تدريجيا ووفق فترات زمنية متباعدة يتخللها التقييم وقراءة النتائج , قبل الذهاب بعيدا في تناول العلاج دون الإلتفات إلى آثاره ومضاعفاته الجانبية على جمهور الناس المتلقين للعلاج , أي" الشعب ".
وقد لا يختلف إثنان ويجب أن نقر ونعترف , بأن الخطأ الذي وقع في تعاطينا مع علاج الخصخصة , هو أننا تناولناه دفعة واحدة وفي وقت واحد وبإندفاع كبير ,لا بل وفهمناه وفقا لأولئك الخبراء , على أنه بيع للأصول والموجودات إلى المستثمرين , وليس مشاركة بينهم وبين الحكومة , أو حتى وهو الأصح , فتح تلك الأصول والموجودات للإكتتاب العام لمن يرغب من شعبنا وسواه من مستثمرين خارجيين .
هذا الأمر هو الذي أحال علاج الخصخصة الشافي لو أننا تناولناه على جرعات متباعدة يرافقها تقييم ودراسة للنتائج , إلى ما يشبه " دواء ممرض " إن جاز الوصف , لينتج آثارا جانبية وجوهرية سلبية أفرزت جمودا إقتصاديا وفقرا أكثر وبطالة أكبر ومديونية أكبر , وتذمرا وإحتجاجات أكثر بالتالي , ولسان حالنا , هو كحال مريض حصل على علاج من طبيب ليتناوله على جرعات متباعدة زمنيا ويراقب نتائجه , لكنه آثر تناول العلاج كله دفعة واحدة كي يشفى سريعا بحسب تقديره , ومن هنا ساءت حالته وبات بحاجة للرقود في المشفى جراء تعثر تقديره ! .
هذا بالضبط هو ما جرى في بلدنا , وكلنا نتذكر جيدا أن جلالة الملك كان وبناء على آراء الخبراء والمختصين الإقتصاديين , يدعونا إلى الصبر , بإعتبار أن النتائج الإيجابية للخصخصة تتطلب وقتا كافيا كي تظهر تباعا وتنعكس آثارها إيجابيا على حياة ومستوى عيش الناس , من وجهة نظر أولئك المتخصصين , الذين نسوا أنهم جعلونا نتناول الدواء كاملا ولمرة واحدة , فأحدث أثرا سلبيا خلافا لما كان جلالة الملك ونحن جميعا معه نريد ونتمنى .
العلامة الفارقة في مسيرتنا تلك , هي أن الملك وفي ضوء التطورات السلبية الكبرى التي شهدها الإقليم والمنطقة عموما تحت وطأة ما يسمى بالربيع العربي , وإنعكاساته السلبية جدا على بلدنا وفي سائر المجالات والإقتصاد منها , إضطر لأن يتفرغ كثيرا لقيادة سفينة البلد وسط بحر متلاطم الموج , ونجح وبإمتياز , في إخراجه سالما من أتون نار الحروب والدمار , ولا نبالغ إن قلنا , أن الملك شخصيا ووحيدا موظفا لجهوده وتعاون الجيش والأجهزة الأمنية , كان وما زال سياسيا , كمن يقود عربة وسط حقول ألغام واسعة وخطيرة جدا , ومع ذلك وبرغم صعوبة الظروف وجسامة التحديات الخارجية , فقد حقق ما يشبه المعجزة في ضمان سلامة العربة وتجنيبها كل الشرور والمطامع والمطامح , وهو أمر يسجل لجلالة الملك ببالغ التقدير والعرفان والثناء , ومعه أعوانه الجيش والأمن ! .
واقع الحال الراهن , أننا سالمون آمنون مستقرون عطفا على كبر حجم التحديات الخارجية , بفضل الله , ثم بحكمة منهجية سياسات الملك الإقليمية والدولية , لكن ذلك لا يعني أننا لا نعاني داخليا جراء معضلة إقتصادية لا يمكن التقليل من مدى خطورتها , إن لم تجد حلولا متدرجة عملية موضوعية وقوية تنهي تدريجيا آثارها السلبية الخطيرة وبلا شك , على بلدنا وشعبنا ودولتنا ! .
شخصيا , كنت وما زلت وسأبقى أكتب وأقول , أن الحل , هو في حتمية أن نقتنع وجميعا , بأن الإصلاح السياسي المعمق , هو العتبة الأولى والبوابة الأوسع , صوب الإصلاح الإقتصادي والإجتماعي الذي نتمنى جميعا حكاما ومحكومين , فالإقتصاد مولود السياسة , والإجتماع مولودهما معا , وليس هذا بالفتح الجديد على كل مفكر واع يرى بالبصيرة قبل البصر .
الإصلاح السياسي وبإختصار , يتطلب تشريعين عصريين عادلين وفاعلين ومؤثرين , الأول للأحزاب , والثاني للإنتخاب , ودونما إبطاء , تمهيدا لإجراء إنتخابات برلمانية حرة شفافة تعبر حقا عن نبض الشارع وتمثل إرادة الشعب , وتفضي إلى حكومات برلمانية كما يطالب الملك ويدعو وبإستمرار , بمشاركة حزبية بنسبة جيدة إبتداء , وقابلة للتطوير والزيادة تباعا في ضوء تقييم التجربة . والإصلاح السياسي يتطلب وعلى طريقة , "حمل على نظاف " , طيا نهائيا لملف الفساد المؤذي لسمعة الوطن كله , من خلال تسويات عاجلة مع كل من تطاله شبهة فساد , ودونما محاكمات طويلة تنتج ثرثرة طويلة وتشويها للسمعات , وتكفل في الوقت ذاته , إستعادة أموال كثيرة تحتاجها الدولة ومواطنوها المعذبون جراء الفقر والبطالة وغلاء الأسعار وتدني المداخيل .
والإصلاح السياسي , يتطلب الإرتقاء بالخطاب السياسي للدولة , وبما يكفل إشراك مختلف النخب الشعبية وبالذات تلك المؤهلة بفعل الخبرة والتجربة في إدارة الشؤون العامة للدولة , وإحتواء الجميع معارضين وموالين معا , وفتح الساحة لهم جميعا للتعبير عن آرائهم وبرامجهم وأنماط تفكيرهم , وعرضها بضاعة للشارع العام كي يقرر بشأنها ما يصلح وما لا يصلح, وفقا للمنهج الديمقراطي الحقيقي الذي يكتب الحياة للأقوى فكريا وبرامجيا , والإنزواء لما هو غير ذلك .
ختاما , وقبل أن أغادر , الإصلاح السياسي ليس مهمة السلطة الرسمية وحدها , بل هو مهمتنا جميعا متى تحللنا من عقدة الإرتهان لمكاسبنا ومصالحنا الشخصية , وجعلنا المصلحة الوطنية فوق كل إعتبار , ومتى مارس كل منا منهجية رجال الدولة الحقيقيين الذين يعملون من أجل وطن وشعب ودولة , لا من أجل مكاسب ذاتية وحسب ! . وفي هذا إمتحان عملي كبير للأحزاب وللبرلمان ولسائر النخب والمؤسسات الأهلية لا بل ولكل مواطن , فإما أنا فقط وبعدي الطوفان, وعندها ليس من حقي أن أتذمر , أو الوطن ومصالحه العليا والشعب ومصالحه العامة , وعندها من حقي أن أتذمر وأشكو وأعارض , إن لم تستجب السلطة الرسمية . ولست أشك في أن جلالة الملك رأس الدولة هو أول من يتمنى ذلك , لا بل ويلح في الدعوة إليه مرارا وتكرارا .
ولكم أتمنى لو تتاح الفرصة لمعارضين كثر للقاء جلالته والإستماع من صاحب الشأن مباشرة , فأنا أجزم بأن لا أحد من هؤلاء إلا ويحتفظ في ذاته بكل الإحترام والتقدير والمودة لشخص ومقام جلالته . عذرا للإطالة , والله من وراء القصد .