"باكو" زيادة سنوية
جفرا نيوز - المهندس عادل بصبوص
ليست "باكو" عاصمة أذربيجان المدينة الجميلة الواقعة على بحر قزوين هي المقصودة بهذا المقال، وإنما "باكو" وحدة العد النقدية بمعنى "ألف جنيه" وفقا للهجة المصرية المحببة والرشيقة، فقد ضجت وسائل التواصل الإجتماعي خلال اليومين الماضيين بخبر زيادة راتب موظفة في أمانة عمان بمقدار ألف دينار ... نعم ألف دينار ... ليصبح إجمالي راتبها الشهري 3616 دينار، وذلك وفقا لوثيقة مسربة أكدت الامانة صحتها لاحقا، وقد بررت الأمانة هذه الزيادة بسبب تكليف الموظفة المذكورة بمهام وواجبات إضافية.
لسنا معنيين بمناقشة الأمانة في مؤهلات وخبرات هذه الموظفة ولا فيما إذا كانت "المهام والواجبات الإضافية" تتطلب زيادة بهذا المقدار على راتبها المرتفع أصلا وفقا لمعايير القطاع العام، فهذه قضية تحتمل الأخذ والرد، بيد أن ما أستوقفني وأكاد أقول "إستفزني" هو صدور مثل هذه القرارات في هذا الوقت بالذات، والحكومة ورئيسها بالذات يخوض معركة ضارية لإستعادة ثقة الجمهور بأن الحكومة جادة في وقف الهدر وضبط النفقات، تحضيرا لمواجهة إستحقاق صعب لا مفر منه، فقانون الضريبة المعدل الذي قامت بسحبه هذه الحكومة إستجابة للضغط الشعبي الهائل، ستعود الحكومة لتقدمه من جديد بعد إعادة صياغته بناء على المشاورات التي يقوم بها نائب رئيس الوزراء د. رجائي المعشر مع مختلف القطاعات والجهات المعنية، فأي صياغة للقانون الجديد لا يمكن أن تتجاوز ثلاثة محاور رئيسية هي تخفيض الإعفاءات الضريبية وتوسيع قاعدة المكلفين ورفع نسب الضريبة على بعض القطاعات، وبالتالي لا مفر من العودة إلى زيادة الاعباء الضريبية ربما بنسب قد تقل هنا لترتفع هناك، الأمر الذي لا يتقبله ولا يتفهمه المزاج العام حاليا، فكافة الخطب والتبريرات لن تقنع المواطن العادي بالتضحية وتحمل المزيد من الاعباء الضريبية ما لم يرى بأم عينيه بأن الحكومة ووزراءها وكبار موظفيها قد بدأوا بأنفسهم وقدموا المثال والقدوة الحسنة في التضحية والتقشف وترشيد القرارات، الأمر الذي يتطلب إجراءات شاملة مدروسة ومركزة وجهودا كبيرة تشمل كافة المجالات، لا خطوات وقرارت إرتجالية – كقرار أمانة عمان المذكور آنفا - تعزز القناعة لدى العامة بأن الحكومة في الوقت الذي تسعى لزيادة أعباء ومعاناة المواطنين من خلال زيادة الضرائب، تقوم بزيادة رواتب كبار موظفيها ذوي الرواتب المرتفعة أصلا وتمعن في الهدر وتبديد الموارد المحدودة والذي يراه الكثيرون شكلا من أشكال الفساد.
لقد بات واضحا بأن الحكومة كما الحكومات السابقة لا تمتلك "عقلا جمعياً" واحدا يضع الأهداف الإستراتيجية ويضبط إيقاع كافة أجهزة الدولة خدمة وتنفيذا لهذه الأهداف، ولا يسمح لأي جهة حكومية كانت بالإضرار بها، ذلك أن الأثر السلبي لزيادة راتب موظفة الأمانة لا يتمثل بالقيمة أو الأثر المالي لهذه الزيادة على موازنة الدولة، وإنما في الإضرار بمصداقية الحكومة وجهودها لعبور هذه المرحلة الحساسة والحرجة والتي كادت تطيح بما نتمتع به كمواطنين ودولة من أمن وإستقرار مجتمعي، هل تذكرون الخطوة التي إتخذتها الحكومة السابقة وكانت "خطوة خارج السياق تماما" عندما إتخذت قرارا بإعفاء كبار الموظفين من المبالغ التي تقاضوها كمكافئات وبدلات زيادة عما يسمح به نظام الخدمة المدنية، في الوقت الذي كانت تستعد فيه لإطلاق قانون الضريبة المثير للجدل، وكنا من أوائل من أشاروا إلى هذا القرار وإنتقدوه قبل أن تسارع الحكومة وتتراجع عن ذلك القرار.
إن المرحلة التي يمر بها الوطن تتطلب من كافة القيادات العليا في الوزارات والمؤسسات الحكومية المختلفة ان تكون واعية ومسؤولة ليس عن الجوانب الفنية والقطاعية ذات الصلة بالوزارة والمؤسسة فقط، وإنما عن السياسات والإستراتيجيات الكلية للدولة أيضا، ألم يدرك من إتخذ قرار "زيادة الباكو" الأبعاد السلبية لمثل هذا القرار ولديه الآلاف من العمال الذين لا يتجاوز الراتب الشهري للواحد منهم (300) دينار والزيادة السنوية دنانير معدودة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
لقد آن الآوان للجميع وخاصة أصحاب القرار من القيادات العليا، أن يدركوا ان لا حصانة لقرار سلبي مهما كان، ألم تسقط ضغوط شعبية في ظرف أيام معدودة حكومة كانت تظن أنها من طويلي الأعمار، ألم تنجح هذه الإحتجاجات في سحب قانون خلافي قال رئيس وزراء في حينه أن ذلك القانون لن يسحب إبدا، كما آن الأوان أيضا للجميع أن يدرك أيضا أن سرية القرارات وخاصة السلبية منها لم تعد مضمونة، فوسائل التواصل الإجتماعي شئنا ام أبينا أصبحت عن قصد أو غير قصد وسيلة ناجعة وفعالة تساهم في تكريس قيم الشفافية والمسائلة، والشواهد على ذلك أكثر من أن تعد وتحصى.
وبالعودة إلى أمانة عمان وقرارها العتيد أقول، إن مؤسسة مثلها لديها الآلاف المؤلفة من الموظفين والمهندسين والمختصين لن تعجز أن تجد من بين موظفيها من يقوم "بالمهام والواجبات الإضافية" التي كلفت بها الموظفة المذكورة، وحتى وإن لم تجد من لديه الخبرة والدراية والمهارات المطلوبة، فالتدريب كفيل بذلك، هذا ما يقوله الكثيرون ومنهم متخصصون في الإدارة العامة والموارد البشرية.