جلالة السيدة الأولى

جفرا نيوز - الدكتور جواد الأحمد
مشكلة المرحلة الراهنة من تاريخ الأردن الحبيب أن المسافة ضاقت كثيرا بين الحكمة والضلال حتى أصبح كثيرون يتخيلون أن مجرد وجود "كيبورد" أو "مايكروفون" أمامهم يدخلهم إلى سبعة أبواب الحكمة، بينما هم في ضلالهم وغيِّهم سادرون. ذلك أنه ثمة فارق كبير حين تتحدث في النطاق العام وتحت الحصانة؛ بين أن تقول أول ما يخطر ببالك، وبين أن تزن كلماتك وتختار مواقفك بعناية بعيدا عن الهرطقة السياسية والتذاكي القانوني و"الشوفونية" الانتخابية (من شوفوني)، فالنائب مسؤول والنيابة عمل جاد لا يجوز أن يؤخذ باستخفاف والحصانة أمانة لا يجوز العبث بها، ولو عدنا إلى أول نظام داخلي لمجلسنا النيابي الموقر لوجدنا نصا يمنع على النائب أن يستقي معلوماته مثلا من الصحف التي كانت بمعايير الخمسينيات غير موثوقة الأخبار لغلبة الطبيعة الحزبية عليها، فما بالك اليوم: ترى هل يجوز أن نصدر نصا يحظر على النائب أن يأتي إلى "مجلس الرقابة والتشريع باسم الأمة" بهرطقات السوشيال ميديا وإشاعات القهاوي ولفافات "الهيشي" السياسية المفخخة ومعارضات "ضيقة العين" التي تتلظى ثم تتخفى تحت أوجاع مسحوقي "ضيقة اليد". ترى ماذا حصل لمبدأ "النزاهة في المسؤولية" ومن اغتاله مبكرا جدا في عملنا السياسي؟ قيل كلام بالأمس تحت القبة لا ينتمي إلى لون الأردن، ولا يليق بمجلس الأمة ولا بنواب الشعب، فيه تطاول أكثر مما فيه رقابة، ومجلس الأمة لا رقابة له ابتداء على طريقة ممارسة رأس الدولة لصلاحياته، وفيه استغفال واستهتار أكثر مما فيه مسؤولية، ولأن كثيرين أشكل عليهم الأمر فظنوا الباطل حقا واعتقدوا أن خلط الأمور توضيح لها، أستاذنكم بهذه التوضيحات المستحقة حتى لا نترك الحقائق تضيع بين أيدي عُميان السياسة وعُورانها. أولا، إن جلالة الملكة، باعتبارها سيدة أولى، تستمد دورها في أي ملف وطني من التكليف الذي يكلفها به رأس الدولة جلالة الملك، ولا صلاحيات ولا اختصاصات لجلالتها خارج هذا التكليف، الأمر الذي يجعل صلة جلالتها بأي ملف مستمدة من "اختصاصات جلالته" لا "اختصاصات جلالتها" غير الموجودة أصلا. وفي فقهنا الدستوري الأردني فإن تكليفات جلالته الشفوية، كما أفترض أنه حصل في هذه الحالة، لها نفس قوة تكليفات جلالته المكتوبة. والدور الذي تلعبه "السيدة الأولى" الأردنية بناء على ذلك ليس بدعا من القول وإنما هو تقليد متعارف عليه في الغالبية العظمى من دول العالم، لكنني لتوضيح المسألة أورد سابقتين مهمتين: أ‌.في مجال دور السيدة الأولى، أذكّر بالدور المهم الذي لعبته السيدة الأولى الأمريكية في عقد التسعينيات من القرن الماضي وهي السيدة هيلاري رودهام كلينتون زوجة الرئيس بيل كلينتون، الذي كلّفها بالإشراف على ملف الرعاية الصحية بعد أن كانت حققت نجاحا في الملف نفسه كسيدة أولى لولاية أركنساس. ما يلفت الانتباه أن نجاح هيلاري كسيدة أولى في ملف الرعاية الصحية كان ورقة الاعتماد التي بنت عليها ترشيحها للرئاسة في دورتي 2008 و2016، ولم يرد على لسان أي من خصومها السياسيين أي انتقاد لدورها ذاك، لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون، رغم ما نعرفه من شدة الحملات الانتخابية الأمريكية. ولعل الكثيرين يتجاهلون هنا أن السيدة الأولى الأمريكية تشارك في لقاءات زوجها مع المسؤولين الأجانب بما في ذلك حالات لا تحضر فيها السيدة الأولى المقابلة والأمثلة كثيرة. ب‌.أما في مجال التفويض الملكي الشفوي، فأذكّر بممارسة سمو الأمير الحسن بن طلال أثناء ولايته العهد (1965-1999) الكثير من الصلاحيات مثل الإشراف على خطط التنمية الثلاثية والخماسية، وحين كان بعض رؤساء الوزارات يعترضون (الكباريتي مثلا 1996) كان رد الحسين العظيم رحمه الله على الدوام: إنه يعمل بتفويض مني. وبالطبع فذلك التفويض لم يُنشر نصا ولم يكن مكتوبا. بل سبق لراحلنا العظيم أن أصدر إرادات سامية شفويا بأسلوب علني أيضا مثلما حصل عام 1992 حين منح الدكتور عبد اللطيف عربيات لقب معالي بأن خاطبه في مناسبة عامة قائلا "أهلا يا معالي الأخ"، ولا يوجد "نص مكتوب" لتلك الإرادة السامية. ثانيا: لا بد لنا هنا من تسجيل ملحوظة في غاية الأهمية وهي أن تدخّل جلالة "السيدة الأولى" في الملفات التي يكلفها بها صاحب الجلالة لا يكون في صلب عمل الوزارة Core Business وإنما في مجال القيمة المضافة Added Value على ذلك العمل. ولعل تجربة جلالتها في دعم وزارة التربية والتعليم خير مثال على ذلك. فدور جلالتها تمثل في مبادرات مدرستي، وإدراك، وأكاديمية تدريب المعلمين، وتدريب المديرين، وجوائز التميز في القطاع التعليمي، ومرجعية الاستراتيجية الوطنية للموارد البشرية. ثالثا: وعلى ذكر هذه المبادرات، نتساءل هل مثل هذه القيمة المضافة تستحق الترحيب أم الاعتراض؟ أليست مبادرة مدرستي التي جابت أرجاء المملكة للاعتناء بالمدارس إضافة إيجابية لعمل الوزارة؟ ألا تمثل شبكة إدراك التي توفر مناهج أكاديمية عالمية باللغة العربية وأصبحت مرجعا للطلبة الأردنيين والعرب إضافة متميزة لعملنا الوطني الجمعي؟ ألا يقال الأمر نفسه عن تدريب المعلمين والمديرين بعد أن كنا على مدار عقود نشكو من ظاهرة المعلم المتمكن من تخصصه لكن دون معرفة لأدوات التعليم أو المدير الذي يكون معلما متميزا فيفشل في أول اختبار إداري لعدم تدريبه على مهارات الإدارة التربوية. ألسنا ندرك اليوم مدى حاجتنا إلى الاستراتيجية الوطنية للموارد البشرية ونحن نشاهد أبناءنا يتعطل توظيفهم لعدم مواءمة مساراتهم التعليمية مع احتياجات أسواق العمل. رابعا، ومن المهم إدراك حقيقة أن السيدة الأولى، أي سيدة أولى وليس فقط جلالة الملكة، تلعب دورا استشاريا طبيعيا في حياة رأس الدولة حتى لو لم تكن لها صفة رسمية، والسيدة الأولى الفرنسية الحالية خير مثال على ذلك، ولا ننسى الدور الذي قامت به الزوجة السابقة للرئيس ساركوزي قبل طلاقهما من السعي لدى النظام الليبي السابق والتفاوض معه لإنهاء قضية الممرضات البلغاريات، وقد وضعت كل مجهودات الدبلوماسية الفرنسية يومها تحت تصرفها ولم ينكر عليها ذلك أحد. وبالتالي، فمن الطبيعي هنا أن نتساءل هل يفترض إذا قدمت جلالة السيدة الأولى رأيا سديدا ذا جدوى لزوجها جلالة الملك أن يرفضه أم أن الأصل أن الملك الذي يتقبل من شعبه كل رأي سديد سيكون من باب أولى مستمعا لرأي سديد من شريكة عمره؟ خامسا، وتستحق الإشارة هنا تلك الإشاعات والادّعاءات التي تملأ الشق الصبياني في السوشيال ميديا حول دور جلالة الملكة، تارة عن تشكيلات حكومية وأخرى عن تدخل مباشر في إصدار قرارات حكومية أو أمنية، وغير ذلك من الخزعبلات المتكررة التي تنسب لجلالة السيدة الأولى دورا وهميا يتم تضخيمه والمبالغة فيه عن عمد لاختراع حكايات وأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان، فإذا عينت سيدة وزيرا كان التبرير فورا إنها من تعيين جلالتها، وإذ عين وزير من خلفية ديموغرافية ما قيل الشيء نفسه، ووصل الشطط إلى اختراع مكاتب لا وجود لها ونسبتها لجلالتها؛ دون احترام لا لمقام العائلة المالكة ولا لحساسية المكان الذي يزعمون وجود مكتب لها فيه ولا لعقل المواطن الذي يبدو أنهم يفترضون أن لا عقلَ لديه. ويقينا أن مثل هذه الخزعبلات المتكررة تصدُر عن أحد أمرين إما الواهمين المتوهمين بقدرتهم على إرباك المشهد الأردني وصولا لما يهلوسون به من أضغاث أحلام أو عُتاة الجاهلين الذين لم يخرجوا بعد من شرنقة أوهام تصنيع التنافس الديموغرافي السلبي فأصبحوا يخترعون لأنفسهم كل يوم "لهّاية" وليتهم ينفطمون. ولعل هذا ما يفسر تعمد ذاك الذي هرطق بالأمس اختيار تعابير من مثل "اختصاصات جلالة الملكة" فكأنه يريد أن يوهم من يسمعه أن جلالتها تمارس صلاحيات تنفيذية أو أنها تأخذ من صلاحيات رأس الدولة جلالة الملك، وهي أوهام وخزعبلات يريد البعض تصنيعها لغرض غير بريء في نفوس يعاقبة كثر. باختصار أيها السادة، جلالة الملكة تلعب دورا وطنيا مهما، لكنها تلعبه ضمن تفويض ملكي لها، وانطلاقا من ممارسة الملك المعظم لاختصاصاته الدستورية (لا اختصاصاتها) وضمن نطاق التفويض لا خارجه، وليس أدل على ذلك من أن هنالك العديد من الملفات التي لا تتدخل فيها جلالتها، لأنها خارج نطاق تفويضها. دعونا إذن من الخزعبلات. احترموا بلدنا، واحترموا ملكنا وملكتنا.
 نقطة، أول السطر.