التداوي بالطبيعة في المجموعة الشعرية "ويبوح الصمت"

بقلم : صابرين فرعون هناك ارتباط حضاري بين الشعراء والطبيعة، ارتباط يؤلف القلوب ويداوي الروح ويطهر البدن؛ فالطبيعة بألوانها المُنسجمة وعطورها الزكية وتضاريسها المتنوعة وأصواتها المُلهمة أُم وصديقة يبثون لها مكنوناتهم، تُروح عنهم ما يُكدر الصفو وتُجلي الهموم وتُشفي شقاء النفس وتفرش أرضها وماءها للعليل لينعم بالاستجمام، علماً أن شعر الطبيعة في الحضارة العربية بدأ بسمات عنيفة تشير للقوة والأنفة والأصالة  كتصوير الأطلال والنوق والإبل والبادية الصحراوية وتشبيه المحبوبة بالفرس ثم أخذ هذا النوع من الشِعر بالتدرج والتجمل بوصف أصوات الطيور وجريان الماء والزهور والجو، فارتبط نظم هذا النوع من الشعر بالوجدان، وكأن الطبيعة الجغرافية والحية مدخل للطبيعة البشرية. سأتناول في مقالتي هذه "أنا" الشاعرة مريم الصيفي في مجموعتها الشعرية "ويبوح الصمت"، وهي مزيج من قصائد عمودية مُولَدة وقصائد تفعيلة، فأما القصائد العمودية في النصف الأول من المجموعة وعددها أربعٌ وأربعين قصيدة عمودية، تعتمد على الطبيعة كثيمة رئيسة للشعرية، ويلحظ القارئ أنها رقراقة بالصور البلاغية، شفافة وعفوية وموحية، ويغلب عليها روي متنوعة "الياء، والهاء، والدال، والألف"، فيها ترابط موسيقي ينسجم مع الألفاظ، فقد اعتمدت على تقنيات شعرية؛ مثل التصريع  كما في "يعنيني، فتحييني"، والجناس غير التام في "فأحميها وتحميني" في البيتين:           ما عاد أمر بهذا العيش يعنيني... سوى الكرامة أحياها فتُحييني           عاهدتُ روحي بأن تبقى مقدسةً..تفدي بلادي, فأحميها وتحميني 
وفي القسم الثاني من المجموعة الشعرية والتي بلغت قصائد التفعيلة فيها واحد وخمسين قصيدة، تتأثر بالمذهب الرومانسي لأن الصور تميل للخيال والعاطفة وفيها نوع من التخاطب، وقد برزت فيها النعوت وعناصر اللون والصوت والحركة والتبعيض والإضافة والتكرار وإثارة الحواس بالوصف والانفعال ووصف الطبيعة البشرية،  كما في المقطع التالي: أغادر كرمة الأوجاع كي تصفو مناراتي وأُبحر في هدير الموج عل الموج يُسكت صوت أناتي أنا الوجع المُعتق في دِنان الروح وبات الأزُّ فيه يبوح بما تقصيه أو تدنيه أناتي سأرحل في براري التيه عل نبوة الأوجاع تحرف خطها المرسوم تبعد عن مساراتي... يغلب على قصائد المجموعة الوصف والتصوير المستمدة عناصره من الطبيعة كالغيوم والندى والجياد والربيع والفجر والسماء واليمام والحساسين، كما أن الشاعرة تعمد لاستخدام أسلوبين متعاكسين هما:  المادية التي تمنح البشر صفة الجمادات، والتشخيص الذي يمنح الأشياء صفات بشرية لتندمج ذاتها مع الطبيعة، كما في هذا المقطع: على صهوة الليل أسرجتُ حلماً تراءى على البعد يصعد فوق الغيوم ويأبى الركون   أرى في قصائد مريم الصيفي مزجاً بين الشعر التقليدي الذي يصف الطبيعة وخروجاً عن قواعده، فهي لا تقف على طلل أو تهجو أو تمدح، وإنما ترى في الطبيعة ما ينسجم مع أناها ويعبرها لتقطع الحزن والغياب والمنفى والمراثي برهافة وعفوية وقيم جمالية؛ فيجد القارئ أن وصف الذات وأحوالها هو نظم شعري ينساب متدفقاً بصوره وأخيلته، تجترح فيه الشاعرة صوتها الخاص وتجدد أدواته متأثرة بمدرسة شعراء الطبيعة في العصرين الأندلسي والعباسي، بينما راح هذا النظم الشعري يخفت صوته مع تأثر الشعراء بتطور صورة الشِعر.. "ويبوح الصمت" مجموعة شعرية تجسد انغماساً كلياً بين مصدر الإلهام والقصائد والشاعرة، فالصمت هنا بوحٌ مقدسٌ، عزفٌ للأمومة والمرأة والوطن والإنسان في ناي الطبيعة، مؤكداً أن الشِعر هو محاكاة تقوم على البوح الذي يعجز الكلام عن إخباره ولا تعجز الكلمات عن تحريك صمته وموسقته من خلال الحسيات، فيه استنطاق للصمت ليبوح ويعالج النفس من انفعالتها.. الشاعرة مريم الصيفي من مواليد مدينة الولجة الفلسطينية ومقيمة في الأردن، حاصلة على بكالوريوس في الأدب العربي من الجامعة الأردنية ودبلوم في التربية من جامعة الكويت. عملت معلمة للغة العربية سنوات طويلة، وهي صاحبة ومؤسسة صالون مريم الصيفي الأدبي الذي يستضيف الشعراء والأكاديميين والنقاد من الوطن العربي، كما أنها عضو اتحاد الكُتاب الفلسطيني وعضو رابطة الكُتاب الأردنيين ولها مجموعات شعرية، منها: ويبوح الصمت، وردة الغياب، صلاة السنابل، عناقيد في سلال الضوء، انتظار.