نعرة إعلامية ..
جفرا نيوز -خاص
ابراهيم عبدالمجيد القيسي
سأحدثكم اليوم عن طفولة شقية لكنها نقية؛ تجلت لي قبل أيام حين وصلني فيديو يجسد تلك الأيام، وكان يتضمن مشاهد من عملية كنا نسميها «دراس البيادر باستخدام القَرِن»بفتح القاف والراء وتسكين النون في «قرن»، والقَرَنُ» هو مجموعة من «الهوايش» وهي دواب الحقل، كالجياد والبغال والحمير، يتم ربطها معا وجنبا إلى جنب في صف متقارب، وتبدأ تدوس محصول القمح او الشعير او العدس، الذي تم تجميعه على «البيدر»، حين شاهدت الفيديو، بدأ الألم يسري في اصبعي الوسطى في كفي اليسرى، حيث تذكر إصبعي ذلك اليوم من أيام الحر اللاهب، حين قرر صالح ابن عمي أن يدرس بيدر القمح قبل حوالي 40 عاما، فجمع عدة جياد من الجيران، وهي «فرس ابو انطون» و»فرس متري الزريقات» وفرسنا «نحلة»، بالإضافة إلى حمارنا «ابو صابر» وحمارهم القزم، وكان «القَرَن» مهيبا، وانطلق في همة لتحطيم القش على ذلك البيدر..
ثم قبل صالح أن اتولى شوطا من «سياقة» القرن على البيدر، رغم حداثة سني..كانت «الهوايش» تعرفني بصراحة، وما أن قبضت بيدي اليسرى على حبل «الرابوط» حتى تضاعفت سرعة القرن، تحت وابل من تلويح بالعصي والسوط بالتناوب باستخدام يدي اليمنى، وصراخ يتناسق مع كل دورة على قرص البيدر، وقمت بضرب واحدة من خيول القرن بالسوط المجدول من أسلاك الهاتف، وما كان منها إلا أن شمطتني «جوز» بقدميها الخلفيتين، لكنني كنت كعادتي حذرا من مثل هذه الانفعالات البهيمية، فوصلت أقدام الفرس الغاضبة إلى عصا كنت أحملها في يدي اليسرى التي تقبض على حبل الرابوط، وجرحت إصبعي الوسطى جرحا طوليا لم أعالجه حتى اليوم، إذ ما زال أثره على الإصبع وألمه ساكن بحميمية شفعت لي بالبركة حين رأيت الفيديو فهزتني الذكرى الجميلة إلى تلك الأيام، حتى إصبعي الأوسط تذكرها لكن بدغدغة من ألم لذيذ مبارك.
كنا نعاني من حشرة تأتي للخيل فتهيج، وكنا نسمي تلك الحشرة «النعرة»، وهي بحجم نحلة، تطير عند بطون وأقدام الخيل، وتستطيع الثبات في نقطة واحدة أثناء الطيران، فتلدغ الخيل لتهيج، ويبدو أن الخيل تعرف عن هذه «النعرة» أكثر مما كنا نعرف، وحديثا عرفت أن هذه الحشرة تقتل حصانا، فهي حين تطير وتلسع، فهي لا تلسع فعلا او تمتص دما، بل هي تعتبر الحصان عائلا لإكمال دورة حياتها، حيث تضع بيوضها تحت جلد الحصان، لتفقس بأعداد كبيرة، وتتحول إلى ديدان في طور من أطوار نموها، تعتاش على دماء الحصان «تطفلا» حتى يموت !.. وهذا سبب هيجان الخيل من هذه الحشرة، فما أن تقترب منه حتى يهيج في حالة كنا نسمي الحصان خلالها بأنه «منوعر».
نعرة الإعلام التضليلية تضرب في أكثر من مكان، لكن يحلو لها الضرب في التعليم العالي، وكتبت هنا في جفرا نيوز قبل أكثر من شهر عن توجهات وأفكار ستؤدي إلى خصخصة التعليم العالي، وهي كانت مجرد أفكار صرحت بها وزارة التعليم العالي وبعض رؤساء الجامعات، وتم طرحها على الملأ من أجل إذكاء الحوار العام فيها، لكن بعض «نعرات» الاعلام لم يقولوا شيئا حولها، ومنذ ذلك الحين قامت الوزارة بتشكيل لجانها لمزيد من دراسة لهذه الأفكار، وتوصلت اللجان ومنذ أكثر من أسبوع إلى قرار يفيد بعدم صواب تلك الاقتراحات، التي كانت تهدف إلى منح الجامعات مزيدا من الاستقلالية من خلال قبول مباشر في تخصصي الطب وطب الأسنان، وهنا تسرب خبر القرار إلى المستعرضين المسترزقين في الاعلام والأفلام، فسطروا بيانات وأخبارا حول ما كتبنا عنه قبل أكثر من شهر، وكنا سنحترم ما قالوا لو قالوه في وقته، لكنهم تغاضوا وصمتوا بل «لبدوا» نظرا لارتباطهم وضلوعهم في حماية بعض المسؤولين المقصرين أرباب خبزهم الملوث، الذين استيقضوا ذات يوم فوجدوا أنفسهم "رؤساء لجامعات"، وما كان من الوزارة إلا أن أعلنت على الملأ "خبر الدستور أمس" بأنها وبناء على قرارات لجانها وقرار مجلس التعليم العالي لن تسمح بالقبول المباشر من قبل الجامعات لطلبة التنافس على هذه التخصصات، ليخرج المسترزقون أنفسهم ويقولون "تراجعت الوزارة عن قرارها "!، ولا يعلمون بل هم يعلموا أن اللجان التي شكلتها الوزارة كانت قد قررت رفض اقتراح القبول المباشر قبل أن يدبجوا أخبارهم الأولى.
تحدثت أمس مع وزير التعليم العالي الدكتور عادل الطويسي وأكد بأن الوزارة لم تقبل الاقتراح أساسا، وحين صرحت منذ أكثر من شهر عنه فعلت لتتلقى آراء الناس والمختصين والاعلام حوله، وشكلت لجنة لدراسة الاقتراح قبل شهر تقريبا وأوصت بعدم قبوله وكان قرار مجلس التعليم العالي مبنيا على هذه النتائج التي خرجت بها اللجان، فنحن لم نقرر أصلا حتى نتراجع، وتحدثنا عن هذا القرار لنحسم مثل هذه الأخبار التضليلية المعروفة الأهداف، فلا شيء نخفيه عن الناس وموضوع كالقبولات على التنافس له تعليمات وقوانين لا يمكن للوزراة أن تغيرها بقرار منها، أما ما يقال عن الرسوم الجامعية على برنامج التنافس فهي مسألة تعود لمجالس أمناء الجامعات وليس من حق الوزارة التدخل فيها..
وكنا كذلك نصبغ مكان اللسعة على أجساد الخيول بالقطران الأسود، فهو يطرد الحشرات المتطفلة من أي صنف كانت.
ibqaisi@gmail.com