"المنع من النشر" إجراء عرفي عقيم وبلا أثر في ضوء انفتاح الفضاء الإعلامي


محكمة أمن الدولة أصبحت صاحبة الذراع الاطول في النظام القضائي الأردني بفضل الاجواء السياسية والتشريعات القمعية
جفرا نيوز- خاص- كتب: عمر محارمة لا يمكن النظر الى قرار توقيف الزميل غازي المرايات من صحيفة الرأي بقرار من مدعي عام محكمة أمن الدولة دون الالتفات الى جملة من القواعد القانونية والسياسية التي جعلت من محكمة أمن الدولة صاحبة الذراع الأطول في المنظومة التنفيذية والقضائية. قانون منع الارهاب وقانون محكمة أمن الدولة الجديد والاجواء السياسية التي تميل الى تحويل البلاد الى دولة بوليسية مستبدة بحجة تحقيق الامن،ومن فوق كل ذلك تراجع سلطة النظام القضائي المدني وتخليه عن أدواره وقبوله بعلوا السلطات والأجهزة عليه. صحفيون ثلاثة واجهتهم محكمة أمن الدولة بتهم كبيرة من نوعية تعريض أمن البلاد للخطر أو الترويج للإرهاب بسبب مواد صحافية كتبوها ونشروها ليجدوا أنفسهم في قفص الإتهام بجملة تهم لا أحد يستطيع فهم كيفية "تكييفها". والمعضلة ليست في إحالة الصحفي الى المحكمة فالتقاضي عملية مدنية يتوجب إحترامها والصحفي كشخص وكأنسان يخضع لسلطة القانون لضمان عدم جنوحه، لكن المعضلة الكبرى أن يحال الصحفي الى محكمة عسكرية (أمن الدولة) حتى لو أرتدى قضاتها ربطات العنق وليس البزة العسكرية.  فتلك النوعية من المحاكم تفتقر لعناصر ومقومات المحاكم العادلة وفق كافة القواعد والتشريعات الدولية وهو ما جعل المطالبة بإلغائها مطلب دائم للتقارير الحقوقية وناشطيها ما استوجب تعديل "إلتفافي" على الدستور عام 2011 منع خضوع المدنيين للمحاكمة أمام محكمة لا يكون جميع قضاتها مدنيون!!. الزميل المرايات يواجه ثلاث تهم من العيار الثقيل لأنه نشر لائحة إتهام في قضية قررت المحكمة منع النشر فيها، علما أن قرار منع النشر لم يعمم عبر الطرق القانونية الواجبة وانما تم اعلانه شفاهةً فقط.  والمضحك المبكي أن الصحفي يواجه تهمة تعكير صفو العلاقة مع ذات الدولة التي قالت لائحة الاتهام أنها تقف خلف المتهم بتنفيذ المخطط الإرهابي، فلا ندري من عكر صفو من؟، الذي خطط للهجوم أم الذي كشف خباياه أم الذي نشر المعلومة للناس..!!. ومن الناحية العملية فإن قرارات حظر النشر أو منع تدفق المعلومات، هي اجراءات عقيمة في ضوء "إنفلات" الفضاء الاعلامي الذي أصبح لا تحده حدود ولا تضبطه قيود. الوسيلة الأنجع لتطويع هذا الإنفلات هي رفع سوية ثقافة المواطنين نحو تقدير المسؤولية المهنية والوطنية لترشيد عملية نقل المعلومات وتداولها، وهذه أمر لم يجرب حتى الآن في الأردن رغم أننا إستنفذنا كل وصفات احتكار المعلومات ومنع النشر والتدخل فيه وقمع حريات التعبير ووقف انسياب المعلومات والسيطرة على وسائل الاعلام. ومنع النشر نمط عُرفي لا يصلح في زمن الاتصال والتواصل، الا أن عجز الاجهزة المعنية والمختصة عن تأطير الفضاء الاعلامي وتنظيمه جعلت من منع النشر وسيلة مريحة وسهلة وسريعة للافلات من المواجهة المهنية مع الاعلام وللهرب من مكاشفة الرأي العام. العملية أشبه بخوف المسؤولين من مواجهة الناس والحقيقة وبتقاليد بوليسية بائسة تنتمي في أغلبها للعهد العثماني وبنظريات سقيمة تتصور أو يتم تسويقها لصاحب القرار على أساس معادلة تنتهي باخطار فادحة في حالة قول الحقيقة أو ممارسة الانفتاح الاعلامي أو حتى التقدم بروايات صلبة للأحداث. والرأي العام عندما يهتم بقضية ما ويتم منع النشر فيها سيتجه الى وسائل اعلام خارج حدود الوطن ليستقي منه أخباربلده فشغف الوصول للمعلومات لن توقفه جرة قلم تمنع النشر.  المفارقة ان مسؤولين رسميين يكثرون من اللغو وتقديم بيانات مغلوطة ثم يطالبون الرأي العام بالحكمة والصمت متذرعين بحساسية هذه القضية ودقة تلك متناسين أن الأردني سيستقي معلوماته من أعداءه عندما تصمت مؤسساته. آخر قرار بمنع النشر أصدرته يوم أمس الأول محكمة أمن الدولة في قضية المخطط الأرهابي المتهم به مواطن نرويجي من أصل عراقي يتبع لفيلق القدس الأيراني وهي قضية على درجة عالية من الأهمية والحساسية وتسترعي إهتماما واسعا من المواطنين. وحسنا فعلت الأجهزة الأمنية و المحكمة عندما أخرت الإعلان عن كشف المخطط حتى إنتهاء التحقيقات وبدء المحاكمة حفاظا على سرية التحقيق وحسن سيره، لكن وبما أن التحقيقات إنتهت وبدأت المحكمة فعليا بعقد جلسات المحاكمة فما المبرر المنطقي والمعقول لقرار منع النشر...؟ مبررات الحفاظ على سير التحقيق لم تعد قائمة وعلنية المحاكمة واحدة من ضمانات المحاكمة العادلة ومن الاصول القضائية في الأردن كما هي في كل العالم، فلماذا جاء قرار منع النشر؟ ولماذا يتم تسريب بعض التفاصيل إذا كان متخذ القرار مقتنعا بفائدته وجدواه؟ تستطيع المحكمة منع الصحفيين الأردنيين ووسائل أعلامهم من نشر اي معلومات أو أخبار تمتلكها عن هذه القضية، لكن هل ستتمكن من منع النشر عبر مواقع وصحف ووكالات عربية وعالمية ام هل ستمنع المواطن من متابعة هذه الصحف والوكالات؟. الاجابة على هذا السؤال تثبت عبثية قرار منع النشر و قلة جدواه، فالمواطن المتعطش لسماع الاخبار حول القضية لن يوقفه شغفه عند حدود وسائل الاعلام المحلية وسيذهب لاستقاء المعلومات من وسائل لا أحد يضمن أن كلها ستكون منصفة وموضوعية وغير معادية.
حريتنا تعتمد على حرية الصحافة، و لايمكن لنا أن نحد من حرية الصحافة دون أن نفقد حريتنا تماماً... "توماس جيفرسون